الحمد لله.
هذا ليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو مثل مشهور تتناقله ألسنة الناس ، يقصدون منه بيان عظيم قدرة الله تعالى ، وأن الله تعالى قد يُري للناس كمال قدرته في مخلوق ضعيف من مخلوقاته ، فيجعل هذا المخلوق آية واضحة وعلامة ظاهرة على كمال قدرة الله تعالى .
وليس المقصود أن نفس قدرة الله تعالى تكون في هذا المخلوق ، فإن هذا لا يمكن ، أن يتصف مخلوق بصفات الله تعالى .
ومن أمثلة ذلك : المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن الذباب ، ليبين سبحانه عجز الآلهة المزعومة ، وفقرها أن تنصر نفسها من انتقاص الذباب منها ، وهو خلق حقير صغير بالنسبة لمخلوقات الله ، ولكن عظيم قدرة الله تبدو في كل شيء .
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الحج/73 .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي : أنصتوا وتفهموا ، (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك .
وأخرج صاحبا الصحيح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة)
ثم قال تعالى أيضا : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك .
هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ، ولهذا قال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب . واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق . وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم " انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (5/453-454) .
وقد أظهر الله بعض آياته العظيمة على يد أضعف خلقه ، وذلك حين أهلك أبرهة الحبشي لما أراد هدم الكعبة بجيشه الجرار ، ولكن الله سبحانه وتعالى أهلك هذا الجيش بواسطة الطير الأبابيل ، تحمل في أرجلها حجارة من سجيل ، فكانت آية عظيمة إلى يوم القيامة .
وقد قال قتادة في تفسير قوله تعالى : (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ) محمد/4 ، قال : "إي والله بجنوده الكثيرة ، كلُّ خَلْقِه له جند ، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا" انتهى .
"جامع البيان" (22/158) .
ومنه ما يذكره المفسرون في سبب هلاك نمرود الذي ألقى إبراهيم عليه السلام في النار ، فقد ذكروا أن الله تعالى أهلكه وجنده بالبعوض .
وقد عقد الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة" (4/1509) بابا قال فيه : "ذكر نمرود ، وعظم سلطانه ، وعتوه ، وتمرده ، وتسليط الله تعالى أضعف خلقه عليه ، احتقارا له ، وتهاونا بشأنه" انتهى .
وما الأمراض الخطيرة التي يبتلي الله بها العباد إلا مثالا ظاهرا على قهر الإنسان بخلق ضعيف صغير من خلق الله ، وهي الجراثيم ، فيقف الإنسان عاجزاً عن مدافعتها أو مقاومتها!!
وفي جميع ذلك عظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
والله أعلم .
تعليق