الحمد لله.
إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً آخر ، نكاح رغبة لا نكاح تحليل ، ثم يفارقها ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) البقرة/230 .
وروى أبو داود (2076) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ) .
وصححه الألباني في سنن أبو داود .
وينظر جواب السؤال رقم (109245) .
وهذا التحليل إن صدر باتفاق من المطلق والزوجة والمحلل ، فأمره واضح ، أنه محرم ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، وكذلك لو نواه المحلل من نفسه تبرعا ، فهو تحليل محرم عند جمهور الفقهاء .
واختلفوا فيما لو نوت المرأة بزواجها من الثاني التحليل دون علم من تزوجها ، وصورة ذلك أن تتزوج من الثاني بغرض التحليل ثم تدعوه للطلاق أو الفسخ لترجع إلى الأول ، فذهب جماعة من أهل العلم – وهو المصحح عند الحنابلة وقول الحسن وإبراهيم النخعي- إلى أن ذلك من التحليل المحرم ، فلا تحل لزوجها الأول في الباطن ، أي فيما بينها وبين ربها .
وذهب آخرون إلى أن نيتها لا تؤثر ، فإن طلقها الثاني حلت للأول ، وإليه ذهب المالكية والحنابلة .
والراجح هو القول الأول ؛ لأن فعلها ذلك تحايل على ما حرمه الشرع ، فإن الشرع منعها من الرجوع إلى الأول حتى يحصل النكاح الثاني المبني على الرغبة والتأبيد ، لا النكاح المؤقت التي يتوصل به إلى الرجوع للزوج الأول ، ولما في عملها هذا من غش الزوج الثاني وخداعه ، وإلحاق الضرر به غالبا ، فإنها قد لا تتوصل إلى الخلاص منه إلا بتنغيص عيشه والإساءة إليه حتى يطلقها أو يخلعها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقال الحسن والنخعي وغيرهما : إذا همّ أحد الثلاثة فهو نكاح محلل , ويروى ذلك عن ابن المسيب . ولفظ إبراهيم النخعي : إذا كانت نية أحد الثلاثة : (الزوج الأول ، أو الزوج الثاني ، أو المرأة) أنه محلل فنكاح هذا الأخير باطل ، ولا تحل للأول .
ووجه هذا : أن المرأة إذا نكحت الرجل وليست هي راغبة فيه فليست هي ناكحة كما تقدم , بل هي مستهزئة بآيات الله متلاعبة بحدود الله , وهي خادعة للرجل ماكرة به , وهي إن لم تملك الانفراد بالفرقة فإنها تنوي التسبب فيها على وجه تحصل به غالباً بأن تنوي الاختلاع منه وإظهار الزهد فيه وكراهته وبغضه , وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها , ويقتضيه في الغالب , ثم إن انضم إلى ذلك أن تنوي النشوز عنه , وفعل ما يكره لها , وترك ما ينبغي لها , فهذا أمر محرم وهو موجب للفرقة في العادة , فأشبه ما لو نوت ما يوجب الفرقة شرعا , وإن لم تنو فعل محرم ولا ترك واجب , فهي ليست مريدة له , ومثل هذه في مظنة أن لا تقيم حدود الله معه , ولا يلتئم مقصود النكاح بينهما , فيفضي إلى الفرقة غالبا .
وأيضا : فإن النكاح عقد يوجب المودة بين الزوجين والرحمة كما ذكره الله سبحانه في كتابه , ومقصوده السكن والازدواج , ومتى كانت المرأة من حين العقد تكره المقام معه وتود فرقته لم يكن النكاح معقودا على وجه يحصل به مقصوده .
وأيضا : فإن الله سبحانه قال : (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فلم يبح إلا نكاحاً يظن فيه أن يقيم حدود الله ومثل هذه المرأة لا تظن أن تقيم حدود الله ; لأن كراهيتها له تمنع هذا الظن , ولأن المرأة تستوفي منافع الزوج بالنكاح كما يستوفي الرجل منافعها , وإذا كانت إنما تزوجت لتفارقه وتعود إلى الأول لا لتقيم معه لم تكن قاصدة للنكاح ولا مريدة له , فلا يصلح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحيل " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (6/298) .
ولهذه الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام اختار جماعة من علماء الحنابلة أن المرأة إذا نوت التحليل لم تحل للزوج الأول .
قال في "مطالب أولي النهى" (5/127) : " ومن لا فرقة بيده لا أثر لنيته ... ولا أثر لنية الزوجة والولي ; لأنه لا فرقة بيدهما . قال في " إعلام الموقعين " : يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة) . يقول أحمد : إنها كانت قد همت بالتحليل , ونية المرأة ليست بشيء , إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) . وليس فيه المرأة بشيء .
واختار جمعٌ من أصحابنا أنه لا يحصل الإحلال بذلك وهو الأصح " انتهى .
وينظر : "المغني" (7/139) ، "كشاف القناع" (5/96) ، "حاشية الدسوقي" (2/258) ، "إعلام الموقعين" (4/36) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وماذا لو نوته الزوجة ، فوافقت على التزوج بالثاني من أجل أن تحل للأول ؟ فظاهر كلام المؤلف أنه لا أثر لنية الزوجة ؛ ووجهه : أنه ليس بيدها شيء ، والزوج الثاني لا يطلقها ؛ لأنه تزوجها نكاح رغبة ، فليس على باله هذا الأمر ، فإن لم تنوه هي ولكن نواه وليها فكذلك .
ولهذا قال بعض الفقهاء عبارة تعتبر قاعدة ، قال : من لا فرقة بيده لا أثر لنيته ، فعلى هذا تكون الزوجة ووليها لا أثر لنيتهما ؛ لأنه لا فرقة بيدهما .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن نية المرأة ووليها كنية الزوج ، وهو خلاف المذهب ، وسلموا بأنه لا فرقة بيدهما ، لكن قالوا : بإمكانهما أن يسعيا في إفساد النكاح ، بأن تنكد على الزوج حتى يطلقها ، أو يُغروه بالدراهم ، والنكاح عقد بين زوج وزوجة ، فإذا كانت نية الزوج مؤثرة فلتكن نية الزوجة مؤثرة أيضاً .
فعندنا ثلاثة : الزوج ، والزوجة ، والولي ، والذي تؤثر نيته منهم هو الزوج على المذهب ، والقول الراجح أن أي نية تقع من واحد من الثلاثة فإنها تُبطل العقد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات) والولي حينما عقد لم ينو نكاحاً مستمراً دائماً ، وكذلك الزوجة .
فإذا قال قائل : امرأة رفاعة القرظي تزوجت عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنهما وجاءت تشكو للرسول عليه الصلاة والسلام أن ما معه مثل هدبة الثوب ، فقال لها : (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة) ، فقالت : نعم ، ألا يدل ذلك على أن نية الزوجة لا تؤثر؟ نقول : هذه الإرادة ، هل هي قبل العقد ، أو حدثت بعد أن رأت الزوج الثاني بهذا العيب ؟ الذي يظهر أنها بعد أن رأته ؛ لأن كون الرجل يتزوجها ويدخل بها ، وليس عندها أي ممانعة ، ثم جاءت تشتكي ، فظاهر الحال أنه لولا أنها وجدت هذه العلة ما جاءت تشتكي ، والله أعلم ، وإن كان الحديث فيه احتمال " انتهى من "الشرح الممتع" (12/177) .
والله أعلم .
تعليق