الحمد لله.
أولاً :
قصص الحكمة الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة ووقائع الناس وتجاربهم من أنفع أساليب الدعوة والإرشاد ، وقد استخدمها القرآن في نحو ثلث آياته ، كان المقصود منها أخذ العظة والعبرة ، كما قال عز وجل : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يوسف/111.
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
" ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ) أي : قصص الأنبياء والرسل مع قومهم ، ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) أي : يعتبرون بها ، أهل الخير وأهل الشر ، وأنَّ مَن فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة ، ويعتبرون بها أيضاً ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة ، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له .
وقوله : ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي : ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة ، ( وَلَكِنْ ) كان ( تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب السابقة ، يوافقها ويشهد لها بالصحة ، ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه ، ومن الأدلة والبراهين . ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى ، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/407)
بل أمر الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقصص القرآن ، واستعمالها في تبليغ رسالته ، فقال عز وجل : ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأعراف/176.
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله :
" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاقصص ، يا محمد ، هذا القصص ، الذي اقتصصته عليك ... على قومك من قريش ، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل ، ليتفكروا في ذلك ، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا ، لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات ، ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل ، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك " انتهى.
" جامع البيان " (13/274)
وفي مقدمة " التحرير والتنوير " (1/63-69) ذكر فصلا نافعاً في فوائد القصص القرآني لمن أراد الاستفادة منها .
كما أن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام استعمل هذا الأسلوب الحكيم في سرد القصص النافعة المفيدة ، وخير شاهد على ذلك تلك الأحاديث الكثيرة التي تشتمل على قصص السابقين.
يقول الدكتور سعيد القحطاني :
" القصص الحكيم من الكتاب أو من السنة من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ ؛ لما فيه من شحذ ذهن المدعو ؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، ففي هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( غزا نبي من الأنبياء ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ...) ، وهذا يوضح للداعية أهمية استخدام أسلوب القصص في دعوته إلى الله عزّ وجلّ " انتهى.
" فقه الدعوة في صحيح البخاري " (3/381) (ترقيم الشاملة) ، وينظر (3/66) .
ثانياً :
نوصي الدعاة ألا يقتصروا في أساليب الوعظ والتدريس على القصص ، كيلا ينشغل المستمعون بالقصة عن المقصد ، ولئلا تنصرف قلوبهم إلى الاستمتاع بالقصص عن الاستفادة من الموعظة ، بل الواجب تأصيل الأمر التربوي والدعوي من خلال أدلته الثابتة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، على ما هو معروف في أصول الفقه ، ومنهج الاستدلال ، ثم تذكر القصة للعبرة ، وبيان التطبيق العملي ، وشد انتباه السامع إلى معايشة المعنى واقعياً ، فلا تكون القصة بذاتها مصدراً للاستدلال والتشريع .
قال ابن الجوزي رحمه الله : " ذُم القُصَّاصُ لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القَصَصِ دون ذكر العلم المفيد ، ثم غالبُهم يُخَلِّط فيما يورده ، وربما اعتمد على ما أكثره محال " انتهى .
"تلبيس إبليس" (134) .
قال أحمد : " القَصَّاص الذي يُذَكِّر الجنة والنار والتخويف ، وله نية وصدق الحديث ، فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه " انتهى .
"الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/85) .
ثالثاً :
لتحقيق الغاية من القصص في الدعوة إلى الله ، والتأثير في قلوب الناس ، لا بد من توفر بعض الميزات في هذه القصص ، كي تقع في القلوب الموقع الصحيح ، فمن ذلك :
" 1- أن يتحرّى الواعظ الصدق فيما ينقله من قصص وأخبار ؛ فإن الواقعية والمعقولية في ذكر القصص لعامة الناس طريقان سريعان للتقبل والعمل ، ليس على الأمد القريب فحسب ؛ بل حتى البعيد أيضاً ، وانظر إلى وصف الله تعالى قصصه في القرآن بقوله : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ )، متأملاً أثرها الخالد إلى يوم القيامة .
وعليه : فمن الخطأ أن ينظر الواعظ ما سيحصل بين يديه من التأثر بما لم يثق فيه من القصص المؤثرة ، مقابل أن يهمل مصداقيته المستقبلية في وعظه .
وليس هذا فحسب ؛ بل إن الواعظ حتى لو تأكد من صدق قصته أو خبره ، لكنه إن رأى أن فيها من الغرائب ما لا يصدقه عامة الناس ، فالأولى ألا يحدث بها ، حتى لا تنعدم ثقة الناس فيه وفي علمه ، ولقد كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار ، ومن ذلك قول أيوب السختياني رحمه الله : إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ . كما أورد ذلك عنه مسلم في صحيحه ؛ بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث ، ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله : زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ .
2- الحوار ، ويشمل الحوار الشفهي أو الحوار النفسي الذي يشف ما في نفس بعض أطراف القصة بدون ما يتفوه به ، ليصف في بعض المشاعر والخلجات ، وهذا من أكثر ما يؤثر في النفس.
3- التركيز على المواطن المؤثرة ، وذكر بعض التفاصيل التي تكمل المشهد في ذهن المتلقي من دون إيراد الجزئيات التي ربما ندّت بعقل المستمع عن المطلوب .
4- جودة البدء ، وإحكام النهاية ، فإن في البداية تشويقاً وجذباً ، وفي النهاية عنصر المفاجأة ، وعنصر الاتعاظ ، من هنا قال الله تعالى في آخر سورة يوسف : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
5- أن يراوح الداعية بين قصص السابقين والمعاصرين ، فإنه لا يشك أحدنا أن حكايات السلف رحمهم الله في زهدهم وورعهم وتعاملهم مع الله تعالى وخلْقِه فيها من كنوز الوعظ والتذكير ما تطرب له القلوب ، وتهتز لها المشاعر ، ولكن لما كان في المجتمع فئة تستبعد الوصول إلى حالهم ، كان على الواعظ أن يذكر صفحات مضيئة من أحوال الأتقياء والعاملين المخلصين في هذا الزمان ، حتى يقْرُبَ المثال ، ويُتصور التطبيق .
6- أن يوثق الداعية قصته بذكر مرجعها ، أو سندها ، ولو كانت من قصص المعاصرين ، لتزيد ثقة الناس فيه .
إذا توفرت هذه المرتكزات في قصصنا ، ستترك بإذن الله تعالى أثراً كبيراً في نفوس الناس ، فكم قصة غيرت حياة إنسان ، وكم قصة تركت من الأثر ما لم تتركه كثير من المحاضرات والكتب " .
انتهى باختصار من كلام الدكتور فيصل الحليبي ، نقلا عن هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Doat/faisal/05.htm
والله أعلم .
تعليق