الحمد لله.
يحرم أكل الخنزير بإجماع العلماء ، لقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) المائدة/3 .
وأما قتل الخنزير فقد ذهب الجمهور إلى جواز قتله ، وذهب بعضهم إلى وجوبه ، وذهب آخرون إلى استحبابه .
والحجة في ذلك أمران :
الأول : أنه أسوأ من الفواسق التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلها ، فيقتل من باب أولى.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان قتل الخنزير ، وأن هذا من العدل الذي سيقيمه من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري (2222) ومسلم (155) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ ، حَكَمًا مُقْسِطًا ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) .
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيح في كتاب البيوع : "باب قتل الخنزير" .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" : " قَوْلُهُ : (بَابُ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ) أَيْ هَلْ يُشْرَعُ كَمَا شُرِعَ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ ؟ وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ , قَالَ اِبْنُ التِّينِ : شَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ : لَا يُقْتَلُ الْخِنْزِيرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَةٌ . قَالَ : وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِ مُطْلَقًا " انتهى .
وبوب البخاري أيضا في كتاب المظالم والغصب : " باب كسر الصليب وقتل الخنزير ".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه : " وَفِي إِيرَادِهِ هُنَا إِشَارَة إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ خِنْزِيرًا أَوْ كَسَرَ صَلِيبًا لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَأْمُورًا بِهِ , وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيَفْعَلُهُ , وَهُوَ إِذَا نَزَلَ كَانَ مُقَرِّرًا لِشَرْع نَبِيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ جَوَاز كَسْر الصَّلِيبِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُحَارِبِينَ , أَوْ الذِّمِّيِّ إِذَا جَاوَزَ بِهِ الْحَدَّ الَّذِي عُوهِدَ عَلَيْهِ , فَإِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ وَكَسَرَهُ مُسْلِم كَانَ مُتَعَدِّيًا لِأَنَّهُمْ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعْمِيمِ عِيسَى كَسْر كُلِّ صَلِيبٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ نَسْخًا لِشَرْع نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ النَّاسِخ هُوَ شَرْعُنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا لِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ وَتَقْرِيره " انتهى .
وقال ابن حزم رحمه الله : " وأما الخنازير فروينا من طريق البخاري [وذكر حديث نزول عيسى عليه السلام] فأخبر عليه السلام أن قتل الخنزير من العدل الثابت في ملته التي يحييها عيسى أخوه عليهما السلام " انتهى .
وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" : " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِل فِيكُمْ عِيسَى بْن مَرْيَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِر الصَّلِيب , وَيَقْتُل الْخِنْزِير , وَيَضَع الْجِزْيَة , وَيَفِيض الْمَال حَتَّى لَا يَقْبَلهُ أَحَد )... وَفِيهِ دَلِيل لِلْمُخْتَارِ مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا الْخِنْزِير فِي دَار الْكُفْر أَوْ غَيْرهَا وَتَمَكَّنَّا مِنْ قَتْله قَتَلْنَاهُ , وَإِبْطَال لِقَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ فَقَالَ : يُتْرَك إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَة " انتهى .
وفي "فتاوى الرملي رحمه الله" (1/97) : "سئل : هل يندب قتل الخنزير أم لا ؟
فأجاب بأنه يندب قتله" .
وممن صرح بوجوب قتله ابن بطال ، والخطابي رحمهما الله .
قال ابن بطال رحمه الله في شرح البخاري (6 / 344) : " أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام ، وأجمعوا على قتل كل ما يُستضر به ويؤذي مما لا يبلغ أذى الخنزير ، كالفواسق التى أمر النبي صلى الله عليه وسلم المُحْرِم بقتلها ، فالخنزير أولى بذلك ، لشدة أذاه ، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله ، فقتله واجب " انتهى .
ونقل الدميري في "حياة الحيوان" عن الخطابي قوله : " وفي قوله: " ويقتل الخنزير " دليل على وجوب قتل الخنازير، وبيان أن أعيانها نجسة، وذلك أن عيسى عليه السلام إنما ينزل في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية " انتهى .
ثالثا :
لا يباح قتل الخنزير في حالين :
الأولى : أن يكون لأهل الذمة ولم يظهروه ، فإذا أظهروه جاز قتله .
وفي "الموسوعة الفقهية" (20 / 36) : " اتفق الفقهاء على أن أهل الذمة يقرون على ما عندهم من خنازير إلا أنهم يمنعون من إظهارها , ويمنعون من إطعامها مسلما , فإذا أظهروها أتلفت ولا ضمان . وقيد الشافعية عدم تمكينهم من إظهارها بأن يكونوا بين أظهر المسلمين , أما إذا انفردوا ببلد بأن لم يخالطهم مسلم لم يتعرض لهم " انتهى .
والثانية : أن يترتب على قتل الخنزير مفسدة أعظم من قتله ، كأن تحدث فتنة أو ضرر عظيم على المسلمين بسبب قتله ؛ والقاعدة : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
والله أعلم .
تعليق