الثلاثاء 25 جمادى الأولى 1446 - 26 نوفمبر 2024
العربية

قول أبي الدرداء رضي الله عنه ذبح الخمرَ النينانُ والشمسُ

142767

تاريخ النشر : 30-12-2009

المشاهدات : 21605

السؤال

ورد في صحيح البخاري ، في كتاب " الصيد والذبائح " : أن أبا الدرداء رضي الله عنه وضع السمك في الخمر ، ثم وضعها في الشمس ، وقال إن ذلك ليس حراماً . أرجو شرح هذا الحديث بالتفصيل ، وما حكم مثل هذا الطعام ؟

الجواب

الحمد لله.

هذا الأثر ذكره الإمام البخاري رحمه الله معلقا موقوفا بصيغة الجزم ، من قول أبي الدرداء رضي الله عنه ، وذلك في كتاب الذبائح والصيد من صحيحه ، باب قول الله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر )، قال البخاري رحمه الله: " وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - فِي الْمُرِي -: ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ " انتهى.

والمُرْيْ : أدم معروف كما قال النووي رحمه الله في " تهذيب الأسماء واللغات " (3/315) يصنع من سمك وملح وخمر تتحول عن الإسكار بمفعول الشمس والملح .

ذبح الخمرَ : الذبح هنا استعارة بمعنى التحليل والإباحة ، إذ لما كان الشمس والملح سببا في إباحة تحويل الخمر إلى طعام مباح ، فكأن ذلك قام مقام ذبح الحيوان ليصيره حلالا.

والنينان : جمع نون ، والنون هو الحوت ، أي السمك .

قال ابن الأثير رحمه الله :

" النينان جمع نون وهي السمكة ، وهذه صفة مُرْى يُعمل بالشام ، تؤخذ الخمر ، فيجعل فيها الملح والسمك ، وتوضع في الشمس ، فتتغير الخمر إلى طعم المري ، فتستحيل عن هيئتها كما تستحيل إلى الخَلِّيَّة . يقول : كما أن الميتة حرام ، والمذبوحة حلال ، فكذلك هذه الأشياء ذبحت الخمرَ فحلت ، فاستعار الذبح للإحلال " انتهى.

" النهاية " (2/382)

ومقصود أبي الدرداء رضي الله عنه أن الخمر إذا عولجت ببعض المواد ، فانقلبت إلى مادة أخرى غير مسكرة : فإنها تصبح حينئذ حلال طيبا .

ثانيا :

هذه المسألة أصلها المسألة المعروفة بـ " تخليل الخمر بالعلاج "، وقد اختلف فيها العلماء على قولين :

القول الأول : أن الخمر تطهر وتحل إذا تحولت بالعلاج إلى خل وانتفت عنها علة الإسكار ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار من السلف ، وهو ـ أيضا ـ  ظاهر الرواية المذكورة في السؤال عن أبي الدرداء رضي الله عنه .

قال السرخسي رحمه الله :

" قلت : فالخمر يطرح فيها السمك والملح , فيصنع مُري ؟ قال : لا بأس بذلك إذا تحولت عن حال الخمر .

وأصل المسألة أن تخليل الخمر بالعلاج جائز عندنا , ويحل تناول الخل بعد التخليل " انتهى.

" المبسوط " (24/22)، وانظر: " رد المحتار " (1/315) .

وجاء في " حاشية الدسوقي " من كتب المالكية (1/52):

" ( قوله : أو خلل ) ، أي : بطرح ماء أو خل أو ملح أو نحو ذلك فيه " انتهى.

واستدلوا بما ذكره السرخسي رحمه الله تعالى حين قال :

" وحجتنا في ذلك :

1- ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ، كالخمر يخلل :  فيحل ) [ وهذا الحديث لا أصل له بهذا اللفظ ] ، شبه دبغ الجلد به , والدبغ يكون بصنع العباد لا بطبعه , فعرفنا أن المراد : التخليل الذي يكون بصنع العباد .

2- والمعنى فيه : أن هذا صلاح لجوهر فاسد , فيكون من الحكمة والشرع أن لا ينهى عما هو حكمة , وبيان الوصف أن الخمر جوهر فاسد , فإصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه , والتخليل إزالة لصفة الخمرية , فعرفنا أنه إصلاح له , وهو كدبغ الجلد , فإن عين الجلد نجس , ولهذا لا يجوز بيعه .

3- التخليل ليس بتصرف في الخمر على قصد تمول الخمر ، بل هو إتلاف لصفة الخمرية , وبين تمول الخمر وإتلاف صفة الخمرية منافاة .

4- وإذا جاز الإمساك إلى أن يتخلل , فالتخليل أولى بالجواز " انتهى باختصار.

" المبسوط " (24/23) .

وهذا القول هو ظاهر ما روي عن أبي الدارداء ؛ أن الخمر تطهر وتحل بزوال علة التحريم منها ، وهي الإسكار ، أما إذا بقيت علة الإسكار في الخمر ولم تتغير : فهذا لم يقل أحد بجواز تناوله .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح كلام أبي الدرداء – بعد أن جمع طرقه وأثبت صحته -:

" قال أبو موسى في " ذيل الغريب " : عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح لأن المقصود من ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أن النينان وحدها هي التي خللته .

قال : وكان أبو الدرداء ممن يفتي بجواز تخليل الخمر ، فقال : إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدتها ، والشمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالا .

قال : وكان أهل الريف من الشام يعجنون المري بالخمر ، وربما يجعلون فيه أيضا السمك الذي يربى بالملح والأبزار مما يسمونه الصحناء ، والقصد من المري هضم الطعام ، فيضيفون إليه كل ثقيف أو حريف ليزيد في جلاء المعدة ، واستدعاء الطعام بحرافته .

وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر ، وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال ، وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا ، وهذا رأي من يجوز تحليل الخمر ، وهو قول أبي الدرداء وجماعة . " انتهى.

" فتح الباري " (9/617-618) .

القول الثاني : أن معالجة الخمرة لا يطهرها ، وهي على نجاستها وحرمتها ، إلا إذا تخللت بنفسها فتطهر، أما تخليلها بوضع شيء فيها فلا يحلها : وهذا مذهب الشافعية والحنابلة ، وبه تفتي اللجنة الدائمة (22/108) .

يقول الإمام النووي رحمه الله :

" التخليل عندنا وعند الأكثرين حرام , فلو فعله فصار خلا لم يطهر " انتهى.

" المجموع " (2/597)

قال ابن قدامة رحمه الله :

" ( والخمرة إذا أُفسدت , فصُيِّرت خلا , لم تزل عن تحريمها , وإن قلب الله عينها فصارت خلا , فهي حلال ) روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبه قال الزهري .

ولنا :

1- ما روى أبو سعيد قال : ( كان عندنا خمر ليتيم , فلما نزلت المائدة , سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله , إنه ليتيم ؟ قال : أهريقوه ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن .

2- وعن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتخذ الخمر خلا ؟ قال : لا . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه مسلم . 

3- وعن أبي طلحة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا ؟ فقال : أهرقها قال : أفلا أخللها ؟ قال : لا . رواه أبو داود .

وهذا نهي يقتضي التحريم , ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها , بل أرشدهم إليه, سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم .

4- ولأنه إجماع الصحابة , فروي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر , فقال : لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو تولى إفسادها . وهذا قول يشتهر ; لأنه خطب به الناس

" المغني " (9/145) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" فقد تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَحَالَتْ حَقِيقَةُ النَّجَاسَةِ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ بِدُونِ قَصْدِ صَاحِبِهَا وَصَارَتْ خَلًّا أَنَّهَا تَطْهُرُ .

وَلَهُمْ فِيهَا إذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَا تَطْهُرُ بِحَالِ ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لِمَا صَحَّ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَخْلِيلِهَا ، وَلِأَنَّ حَبْسَهَا مَعْصِيَةٌ وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ ، وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ " انتهى .

"مجموع الفتاوى" (21/481) .

وقال أيضا :

" وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَمْ تُشْتَرَ مِنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ جَازَ اشْتِرَاؤُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ لَا يَرْضَى أَنْ يُخَلِّلَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى .

"مجموع الفتاوى" (21/487) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

" قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول سمعت ابن شهاب يسأل عن خمر جعلت في قلة ، وجعل معها ملح ، وأخلاط كثيرة ، ثم تجعل في الشمس حتى تعود مريا ؟

فقال ابن شهاب : شهدت قبيصة ينهى أن يجعل الخمر مريا ، إذا أخذ وهو خمر .

قلت [ أي الحافظ ابن حجر: وقبيصة من كبار التابعين ، وأبوه صحابي ، وولد هو في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر في الصحابة لذلك ؛ وهذا يعارض أثر أبي الدرداء المذكور ، ويفسر المراد به " انتهى .

"فتح الباري" (9/618) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب