الحمد لله.
يبتلي الله تعالى عباده بالسراء والضراء ، بالخير والشر ، بالنعمة والمصيبة ، لينظر كيف يعملون ؟ فالمؤمن يشكر على السراء والنعمة ، ويصبر على الضراء والمصيبة ، كما روى مسلم (2999) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ : إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) .
قَالَ الملا علي الْقَارِي رحمه الله : وَالْمُرَاد بِالسَّرَّاءِ النَّعْمَاء الَّتِي تَسُرّ النَّاس مِنْ الصِّحَّة وَالرَّخَاء وَالْعَافِيَة مِنْ الْبَلَاء وَالْوَبَاء , وَأُضِيفَتْ الفِتْنَة إِلَى السَّرَّاء لِأَنَّ السَّبَب فِي وُقُوعهَا اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي بِسَبَبِ كَثْرَة التَّنَعُّم أَوْ لِأَنَّهَا تَسُرّ الْعَدُوّ " اِنْتَهَى .
"مرقاة المفاتيح" (15/373) .
وهذه سنة الله تعالى في خلقه :
قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) الأعراف / 94 - 95
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" يقول تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نبي ) يدعوهم إلى عبادة الله ، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر ، فلم ينقادوا له : إلا ابتلاهم الله ( بالبأساء والضراء ) أي : بالفقر والمرض وأنواع البلايا ( لعلهم ) إذا أصابتهم ، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق .
( ثم ) إذا لم يفد فيهم ، واستمر استكبارهم ، وازداد طغيانهم : ( بدلنا مكان السيئة الحسنة ) فأدرّ عليهم الأرزاق ، وعافى أبدانهم ، ورفع عنهم البلاء ( حتى عفوا ) أي : كثروا ، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة الله وفضله ، ونسوا ما مر عليهم من البلاء . ( وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) أي : هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين ، تارة يكونون في سراء ، وتارة في ضراء ، وتارة في فرح ، ومرة في ترح ، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام ، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير ، ولا للاستدراج والنكير . حتى إذا اغتبطوا ، وفرحوا بما أوتوا ، وكانت الدنيا أسر ما كانت إليهم ، أخذناهم بالعذاب ( بغتة وهم لا يشعرون ) .
"تفسير السعدي" (ص 297)
وروى الترمذي (2464) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ : ( ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا ، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ ) .
حسنه الألباني في "صحيح الترمذي" .
قال ابن الأثير في "النهاية" (3 / 172) :
" الضَّرَّاء : الحالة التي تضُرُّ ، وهي نقيض السراء ، يريد : إنا اختُبِرنا بالفقر والشِّدة والعذاب فصبرنا عليه ، فلمَّا جاءتنا السراء ، وهي الدنيا والسِّعة والراحة : بطِرنا ولم نصبر " انتهى .
فالصبر على فتنة السراء يكون بشكر الله على نعمه ، وعدم استعمالها في معصية الله ، وعدم الافتتان بالدنيا وما فيها من متاع الغرور ، وعدم التنافس عليها ، وهو الذي يؤدي إلى نسيان الآخرة ، وضياع الحقوق .
روى البخاري (4015) ومسلم (2961) عن عَمْرَو بْن عَوْفٍ رضي الله عنه أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) .
قال الحافظ رحمه الله :
" فِيهِ أَنَّ الْمُنَافَسَة فِي الدُّنْيَا قَدْ تَجُرّ إِلَى هَلَاك الدِّين .
وقَالَ اِبْن بَطَّال : فِيهِ أَنَّ زَهْرَة الدُّنْيَا يَنْبَغِي لِمَنْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَر مِنْ سُوء عَاقِبَتهَا وَشَرّ فِتْنَتهَا , فَلَا يَطْمَئِنّ إِلَى زُخْرُفهَا وَلَا يُنَافِس غَيْره فِيهَا " انتهى .
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
" صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، هذا الذي أهلك الناس اليوم ، الذي أهلك الناس اليوم التنافس في الدنيا وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت لهم ، فاشتغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له ، وهذا من الانتكاس ، نسأل الله العافية " انتهى .
"شرح رياض الصالحين" (ص 110)
والله أعلم .
تعليق