الحمد لله.
أولا :
الحديث المذكور : رواه ابن ماجه(253) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ ) وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .
ورواه أيضا (254) من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما ولفظه : ( لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ ) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
والمقصود بالعلم في هذا الحديث وغيره العلم الشرعي ، فهو المقصود ـ أصالة ـ بالثناء والمدح في خطاب الشرع .
وهو أصل خطاب الشارع بالتكليف ، وأصحابه ورثة الأنبياء ، كما قال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( العلماء ورثة الأنبياء ) رواه أبو داود (3641) وغيره ، وصححه الألباني .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" العلم يطلق على أشياء كثيرة , ولكن عند علماء الإسلام المراد بالعلم هو : العلم الشرعي , وهو المراد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الإطلاق " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (2 / 302) .
ثانيا :
ما ذكرناه من أن العلم المراد بالحديث هو العلم الشرعي ، لا يعني أن العلوم الدنيوية غير محمودة بالإطلاق ، ولا مطلوبة ، بل المحمود من هذه العلوم مطلوب ، لتعلق مصالح الأمة به ، واحتياجها إليه .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" بيان العلم الذي هو فرض كفاية : اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم ، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية ، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ، ولا التجربة مثل الطب ، ولا السماع مثل اللغة .
فالعلوم التي ليست بشرعية : تنقسم إلى ما هو محمود ، وإلى ما هو مذموم ، وإلى ما هو مباح ؛ فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب . وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية ، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة ؛ أما فرض الكفاية فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا ، كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان . وكالحساب ؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما . وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين .
فلا يُتعجب من قولنا : إن الطب والحساب من فروض الكفايات ؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات ، كالفلاحة والحياكة والسياسة ، بل الحجامة والخياطة ؛ فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم ، وحَرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك " انتهى .
"إحياء علوم الدين" (1/16) .
فتبين أن من علوم الدنيا ما هو محمود مطلوب ، وأن شأنها شأن الصناعات : الفلاحة والتجارة وغيرها ، تطلب لمصالح الدنيا ، وجرى الناس على تعلمها والعمل بها لذلك ، ولا ينكر التكسب من ورائها ، لأنها ليست قربة محضة .
ثالثا :
من تعلم شيئا من هذه العلوم الدنيوية المباحة ـ من حيث الأصل ـ ، بإمكانه أن يحسن نيته فيه ، يطلب الخير له وللناس ، أو سد حاجة المحتاج ، أو إعانة الضعيف ، أو إغناء أمته وسد حاجتها ، أو غير ذلك من المقاصد المحمودة شرعا ، وبقدر ما عنده من القصد الحسن ، والنية الصالحة يحمد على عمله ويؤجر عليه ، إن شاء الله ، وإن كان هذا العمل مباحا من حيث الأصل ، ولو تجرد عن ذلك القصد الحسن لم يأثم على ذلك ، ولم يكن ملوما عليه .
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة :
" كل علم ديني مع وسائله التي تعين على إدراكه ، داخل فيما يرفع الله - من علمه وعمل به، مخلصا له - عنده درجات ، وأنه مقصود بالقصد الأول . وكل علم دنيوي تحتاجه الأمة ، وتتوقف عليه حياتها ، كالطب والزراعة والصناعة ونحوها ، داخل أيضا إذا حسنت النية ، وأراد به متعلمه والعامل به نفع الأمة الإسلامية ودعمها ، ورفع شأنها ، وإغنائها عن دول الكفر والضلال ، لكن بالقصد الثاني التابع ، ودرجات كل متفاوتة تبعا لمنزلة ذلك من الدين ، وقوته في النفع ودفع الحاجة " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (12 / 77) .
والله تعالى أعلم .
راجع جواب السؤال رقم : (10675) .
تعليق