الحمد لله.
قتل المؤمن عمدا يتعلق به ثلاثة حقوق : حق الله عز وجل ، وحق المقتول ، وحق لأولياء المقتول ، فإن تاب القاتل توبة نصوحا سقط حق الله ، وإن سَلَّم نفسه للأولياء فاقتصوا منه أو أخذوا الدية ، أو عَفَوْا ، سقط حق الأولياء ، وبقي حق المقتول ، ويُرجى أن يسقطه الله عنه ويعوض المقتول من فضله .
قال ابن القيم رحمه الله : " والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق لله ، وحق للمظلوم المقتول ، وحق للولي ، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ، ندما على ما فعل ، وخوفا من الله ، وتوبة نصوحا : يسقط حق الله بالتوبة ، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح ، أو العفو ، وبقى حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبينه ، فلا يبطل حق هذا ، ولا تبطل توبة هذا " انتهى من "الجواب الكافي" ص 102 ، ونقله المرداوي في "تصحيح الفروع" (6/ 171) وقال : " وتبع في ذلك الشيخ تقي الدين فإنه فصل هذا التفصيل واختاره , وهو الصواب الذي لا شك فيه ".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " والعمد فيه ثلاثة حقوق :
الأول : حق الله ، وهذا يسقط بالتوبة .
الثاني : حق أولياء المقتول ، ويسقط بتسليم نفسه لهم .
الثالث : حق المقتول ، وهذا لا يسقط ؛ لأن المقتول قد قتل وذهب ، ولكن هل يؤخذ من حسنات القاتل ، أو أن الله تعالى بفضله يتحمل عنه ؟ الصواب : أن الله بفضله يتحمل عنه إذا علم صدق توبة هذا القاتل " انتهى من "الشرح الممتع" (14/ 7).
فإذا أخفى القاتل جريمته ، ولم يخبر أولياء المقتول ، فقد بقي عليه حق الأولياء وحق القتيل .
ومن شروط التوبة إذا كان الذنب متعلقا بالغير : رد الحق إليه ، أو التحلل منه ، فيلزم القاتل أن يخبر أولياء المقتول ليعفوا ، أو يقتصوا ، أو يطلبوا الدية ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) ، رواه البخاري (6534).
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " في مسلم قتل مسلما متعمدا بغير حق، ثم تاب بعد ذلك : فهل ترجى له التوبة، وينجو من النار، أم لا؟ وهل يجب عليه دية، أم لا؟
فأجاب :
" قاتل النفس بغير حق عليه حقان :
حق لله بكونه تعدى حدود الله وانتهك حرماته ، فهذا الذنب يغفره الله بالتوبة الصحيحة ، كما قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) ، أي : لمن تاب . وقال : ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) . وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن رجلا قتل تسعة وتسعين رجلا، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ عليه، فسأله : هل من توبة ؟ فقال : أبعد تسعة وتسعين تكون لك توبة ؟ فقتله، فكمل به مائة! ثم مكث ما شاء الله ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه ، فسأله هل لي من توبة ؟ قال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ولكن ائت قرية كذا ، فإن فيها قوما صالحين فاعبد الله معهم ، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ؛ فبعث الله ملكا يحكم بينهم ، فأمر أن يقاس ؛ فإلى أي القريتين كان أقرب ألحق به ؛ فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة فغفر الله له ).
والحق الثاني : حق الآدميين. فعلى القاتل أن يعطي أولياء المقتول حقهم ، فيمكنهم من القصاص ؛ أو يصالحهم بمال، أو يطلب منهم العفو ، فإذا فعل ذلك فقد أدى ما عليه من حقهم، وذلك من تمام التوبة.
وهل يبقى للمقتول عليه حق يطالبه به يوم القيامة ؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره ؛ ومن قال يبقى له ؛ فإنه [ يقول ] : يستكثر القاتل من الحسنات حتى يعطي المقتول من حسناته بقدر حقه، ويبقى له ما يبقى، فإذا استكثر القاتل التائب من الحسنات رجيت له رحمة الله ؛ وأنجاه من النار ( ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الفاسقون ) " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (3/ 407)، مجموع الفتاوى (34/ 171).
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" وَإِنْ كَانَ قَوَدًا أَوْ حَدَّ قَذْفٍ اُشْتُرِطَ ... أَنْ يُمَكِّنَ الْمُسْتَحِقَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ ، بِأَنْ يُعْلِمَهُ ، إنْ جَهِلَ الْقَاتِلُ ، وَيَقُولَ لَهُ : إنْ شِئْت فَاقْتَصَّ ، وَإِنْ شِئْت فَاعْفُ ، فَإِنْ امْتَنَعَ [ أي: صاحب الحق ] مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا : صَحَّتْ التَّوْبَةُ ، وَلَوْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ نَوَى التَّمْكِينَ إذَا قَدَرَ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ". انتهى . من "الزواجر" (3/3414-315) .
وقال ابن عابدين رحمه الله : " قوله ( لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود ) أي لا تكفيه التوبة وحدها . قال في "تبيين المحارم" : واعلم أن توبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط ، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول ، فإن كان القتل عمدا لا بد أن يمكنهم من القصاص منه , فإن شاءوا قتلوه , وإن شاءوا عفوا عنه مجانا , فإن عفوا عنه كفته التوبة اهـ ملخصا . وقدمنا آنفا أنه بالعفو عنه يبرأ في الدنيا , وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى ؟ هو بمنزلة الدين على رجل ، فمات الطالب وأبرأته الورثة : يبرأ فيما بقي ; أما في ظلمه المتقدم لا يبرأ ، فكذا القاتل : لا يبرأ عن ظلمه ، ويبرأ عن القصاص والدية . تتارخانية . أقول ; والظاهر أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة ، لتعلق حق المقتول به , وأما ظلمه على نفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بها تأمل . وفي "الحامدية" عن "فتاوى الإمام النووي" : مسألة : فيمن قتل مظلوما ، فاقتص وارثه ، أو عفا عن الدية ، أو مجانا ؛ هل للقاتل بعد ذلك مطالبة في الآخرة ؟ الجواب : ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة اهـ , وكذا قال في "تبيين المحارم" : ظاهر بعض الأحاديث يدل على أنه لا يطالب . وقال في "مختار الفتاوى" : القصاص مخلّص من حق الأولياء , وأما المقتول فيخاصمه يوم القيامة ، فإن بالقصاص ما حصل فائدة للمقتول ، وحقه باق عليه ا هـ وهو مؤيد لما استظهرته " انتهى من "حاشية ابن عابدين" (6/ 548).
وقال الشوكاني رحمه الله : " والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث ، إن كان له وارث ، أو السلطان إن لم يكن له وارث , والندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إلى مثله , لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها ؛ لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله ، وهو تسليمه ، أو تسليم عوضه ، بعد الاعتراف به " انتهى من "نيل الأوطار" (7/ 69).
والحاصل : أن حق الأولياء لا يسقط إلا بتسليم القاتل نفسه لهم ، ولا تتم التوبة إلا بذلك ، وأما حق المقتول ففيه الخلاف السابق ، والأظهر أنه مع التوبة الصادقة يعوض الله عن القاتل يوم القيامة ويصلح بينه وبين المقتول .
والله أعلم .
تعليق