الحمد لله.
"الصواب في التداوي أنه مستحب مشروع ذكره النووي رحمه الله وآخرون عن جمهور العلماء ، وأنه قول الأكثرين .
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه مستوي الطرفين لا يستحب ولا يكره ، بل هو حلال .
وذهب آخرون إلى أن تركه أفضل ، ويروى عن الصديق أنه في مرضه لما قيل له : ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال : الطبيب أمرضني ، ولكن لا يُعرف صحةُ هذا عن الصديق .
فالمقصود أن الذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصواب أن التداوي مستحب بالأدوية الشرعية المباحة التي ليس فيها حرام ، كالتداوي بقراءة القرآن والرقية الشرعية والتداوي بالكي ؛ فالكي ، لا بأس به عند الحاجة .
وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، وقد رقاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فالتداوي لا بأس به والنبي صلى الله عليه وسلم قال : (عباد الله تَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ) فالتداوي أمر مشروع لا بأس به ولا ينافي التوكل .
التوكل يشمل الأمرين ؛ الاعتماد على الله والتفويض إليه مع تعاطي الأسباب ، ولا ينبغي للإنسان أن يقول : أنا أتوكل على الله ولا آكل ولا أشرب ولا أتزوج ولا أتسبب ، ولا أبيع ولا أشتري ، ولا أتعاطي زراعة ولا صناعة ، هذا غلط فتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل بل هو من التوكل ، وهكذا التداوي من التوكل ، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم ، وسئل عن الرقى وأدوية قال: (هي من قدر الله) .
وقال عمر رضي الله عنه لما أتى الشام وبلغه أن بالشام وباء الطاعون ، انصرف الناس فرجع بهم وقال : نفر من قدر الله إلى قدر الله . ثم أبلغه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (فإذا سمعتم به في بلد فلا تقدموا عليه) فَسُرَّ بذلك لأنه السنة .
فالمقصود أن التداوي أمر مشروع على الصحيح وهو قول أكثر أهل العلم ، ومن تركه فلا حرج عليه . وإذا ظن نفعه واشتدت الحاجة إليه تأكد لأن تركه يضر ، ويتعب نفسه ، ويتعب أهله ، ويتعب خدامه ، فالتداوي فيه مصالح لنفسه ولأهله ؛ ولأن التداوي يعين على أسباب الشفاء ، ويعين على طاعة الله ، حتى يصلي في المسجد ، وحتى يقوم بأمور تنفع الناس وتنفعه ، فإذا تعطل بسبب المرض تعطلت أشياء كثيرة ، وإن كان يثاب في حال المرض عما كان يعمله في حال الصحة كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) هذا من فضل الله جل وعلا .
ولكن التداوي فيه مصالح كثيرة إذا كان بالوجه الشرعي والأدوية المباحة هذا هو الصواب . ومن قال : إنه مستوي الطرفين أو إن تركه أفضل . فقوله مرجوح ، والحق أحق بالاتباع ، والأدلة الشرعية مقدمة على كل أحد .
وأما احتجاجهم بحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ؛ فهؤلاء السبعون ألف ما تركوا الأسباب ، إنما تركوا الاسترقاء وهو طلب الرقية من الناس ، فهذه تركها أفضل ، وتركوا الكي وتركه أفضل ، لكن عند الحاجة لا بأس بالكي ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : (الشفاء في ثلاث : كية نار ، أو أشرطة محجم ، أو شربة عسل ، وما أحب أن أكتوي) وفي لفظ آخر قال : (وأنا أنهي أمتي عن الكي) قد كوى صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فإذا دعت الحاجة إلى الكي فلا بأس به ، وهو سبب مباح عند الحاجة إليه .
والاسترقاء : طلب الرقية ، أما إذا رُقِيَ من دون سؤال فهو من الأسباب ولا بأس به ، ولا كراهة في ذلك .
أما الطيرة في حديث السبعين ألفاً الذين لا يسترقون ولا يكتون ولا يتطيرون ـ فالطيرة محرمة وشرك أصغر ، وهو التشاؤم بالمرئيات والمسموعات حتى يرجع عن حاجته ، هذا لا يجوز وقوله صلى الله عليه وسلم : (وعلى ربهم يتوكلون) هذا يشمل المتداوي وغيره ، فإن التوكل لا يمنع من تعاطي الأسباب ، ألست تأكل؟ ألست تشرب؟ فالأكل سبب للشبع ولقوام هذا البدن وسلامته ، هكذا الشرب لا يجوز للإنسان أن يقول : أنا لا آكل ولا أشرب وأتوكل على الله في حياتي وأبقى صحيحاً سليماً . فهذا لا يجوز ، ولا يقوله عاقل ، هكذا يلبس الثياب الثقيلة في الشتاء للدفء لأنه يضره البرد ، وهكذا الأسباب الأخرى من إغلاق الباب خوفاً من السراق ، كذلك حمل السلاح عند الحاجة ، كل هذه أسباب مأمور بها لا تنافي التوكل ، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين في أُحُد حمل السلاح ولبس اللأمة ، وفي بدر كذلك ، وفي أُحُد ظاهر بين درعين أي لبس الدرعين ، ودخل مكة صلى الله عليه وسلم وعليه المغفر ، كل هذه أسباب فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين عليه الصلاة والسلام" انتهى .
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/365 – 368) .
تعليق