الحمد لله.
أولاً:
من المهم للمسلم في حياته أن يظل متذكرا للموت ، ليقطعه عن الانشغال بالحياة الدنيا وزينتها ، ويردّه إلى الآخرة وأعمالها ؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ) . يَعْنِي : الْمَوْتَ .
رواه الترمذي (2229) وقال : حديث حسن .
لكن ذكر الموت المطلوب ، والمرغوب فيه من الشرع ، هو كما قلنا نوع من الذكر الإيجابي ، يدفع إلى العمل للآخرة ، ويقطع عن معصية الله ، ويزعج صاحبه عن الركون إلى الدنيا وزينتها ، لكنه مع ذلك يعيش حياة متوازنة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحياها ، وهو سيد الخائفن ، وسيد الذاكرين والطائعين ، وكما كان أصحابه معه ، ومن بعده يفعلون .
وحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه خللا في ذلك التوازن المطلوب في حياة المسلم ، غضب غضبا شديدا ، وعلمهم أن ذلك الانحراف عن التوازن المطلوب ، سوف يأخذ صاحبه بعيدا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم :
عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟!!
قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا !!
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟!
أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ؛ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
رواه البخاري (4675) ومسلم (2487) .
فهؤلاء الجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتبهوا إلى مبدأ التوازن الذي يحكم حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقالوا عبادته ؛ أي : اعتبروها قليلة ، واعتبروا هذه القلة مناسبة لحال النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر !!
لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن ذلك فهم خاطئ ؛ فالسبب فيما رأوه من حال النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس هو مغفرة ما تقدم من نبه وما تأخر ؛ لأن هذه المغفرة ـ في حقيقة الأمر ـ تحتاج عبادة كاملة ، تأدية لواجب الشكر للغفور الرحيم ، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلا ؛ لكن هذه العبادة التي رأوها من حال النبي صلى الله عليه وسلم ، هي المناسبة لحال التوازن في حياة المسلم ، بما يمنكه من أداء ما عليه من وواجبات ، وإعطاء كل ذي حقه .
ثانياً:
إذا تبين ذلك ، علمت أن الحالة التي أصابتك في هذه البلاد
، هي حالة مرضية ، من غير شك ، ولذلك أفسدت عليك عيشك ، وأضعفتك عن القيام بحقوقك
تجاه الآخرين ، ومنهم زوجتك . وربما كان السبب في هذه الحالة التي انتابتك في
البلاد التي كنت فيها ، ما تراه في هذا البلاد من الانحراف العظيم عن منهج والله
وطريق الآخرة ، وما هم عليهم من الانهماك في الشهوات والملذات . ولذلك فقد أحسنت
صنعا برجوعك إلى بلادك ، والحمد لله أن من عليك بالشفاء والعافية فيها .
ثالثاً:
الذي نراه لك أن تقنع زوجتك بصرف النظر عن الإقامة في هذه البلاد نهائياً .
ثم إنك ـ كما هو مفهوم من سؤالك ـ لم تتزوجها هناك ، بل تزوجتها في بلدك ، والأصل
بقاؤك في هذه البلد ، وليس من حقها أن تلزمك بالانتقال عنها إلى بلد أخرى ، لم
تشترطها عليك ؛ فكيف إذا كان هناك ضرر عليك من الإقامة في هذه البلاد .
وأما أهلها فبإمكانها أن
تتواصل معهم دائما ، وما أسهل وأكثر طرق التواصل اليوم .
ثم إنه بالإمكان أن تجلس معهم فترة إجازاتهم إذا كانوا يقضونها في بلدكم ؛ ثم لا
بأس ـ إرضاء لزوجتك أيضا ـ أن تدع فرصة لك ولها لزيارة أهلها في هذه البلاد ، كلما
سمحت لك ظروفك بذلك ، من غير ضرر عليك ؛ على أن يكون أصل الإقامة في بلادك التي
تعيش فيها الآن ، وتستريح فيها ، ويمكنك أن تمارس حياتك ، وتؤدي واجباتك الدينية
والدنيوية ، من غير بأس ولا ضرر .
والله أعلم .
تعليق