الأربعاء 15 شوّال 1445 - 24 ابريل 2024
العربية

يخشى من الازدياد من العلم حتى لا يقع في الابتلاء والانحراف كبعض المشهورين

151157

تاريخ النشر : 02-08-2010

المشاهدات : 12562

السؤال


آسف بشده ، فأسئلتي كثيرة جدا ، ولا أجد لديكم متسعا من الوقت لإجابتها ، فاعذروني بشده! أولا : هل أبتعد عن دراسة علم الدين الإسلامي بشدة ، لأنني لو وصلت فيه إلي مرحلة جيده قد يبتليني الله عز وجل في بعض جوانبه ، فأضل ضلالا شديدا ، مثل بعض الناس المشهورين بالعلم في دين الله وابتلاهم الله وضلوا ؛ فهل التمس لنفسي عذرا وأقلل من دراستي للدين خوفا من الامتحان أو الابتلاء ؟

الجواب

الحمد لله.

طلب العلم الشرعي من أجلّ القربات ، وأفضل الطاعات ، وهو مقدّم عند جماعة من أهل العلم على نافلة الصلاة والقيام .

قال في "كشاف القناع" (1/ 411) : " ( وأفضله ) أي التطوع ( الجهاد ) قال أحمد لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد ... ( ثم علم , تعلمه وتعليمه ، من حديث وفقه ونحوهما) كتفسير وأصول ، لحديث : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " الحديث . وتقدم في الخطبة . قال أبو الدرداء : ( العالم والمتعلم في الأجر سواء ، وسائر الناس همج لا خير فيهم) ونقل مهنّا [أي نقل عن الإمام أحمد قوله] : طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته . قيل : فأي شيء تصحيح النية ؟ قال : ينوي يتواضع فيه , وينفي عنه الجهل . وسأله ابن هانئ : يطلب الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به ؟ قال : العلم لا يعدله شيء . ونقل ابن منصور أن تذاكر بعض ليلة أحب إلى أحمد من إحيائها ، وأنه العلم الذي ينتفع به الناس في أمور دينهم قلت الصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا ؟ ... قال أحمد : ويجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه . قيل له : فكل العلم يقوم به دينه ؟! قال : الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه . قيل : مثل أي شيء ؟ قال : الذي لا يسعه جهله : صلاته , وصيامه , ونحو ذلك . ومراد أحمد ما يتعين ، وجوبه وإن لم يتعين ففرض كفاية ، ذكره الأصحاب ، فمتى قامت طائفة بعلمٍ لا يتعين وجوبه ، قامت بفرض كفاية ، ثم من تلبّس به فنفل في حقه . وفي آداب عيون المسائل : العلم أفضل الأعمال , وأقرب العلماء إلى الله وأولاهم به : أكثرهم له خشية ( ثم صلاة ) " انتهى مختصرا .

وفيه : أن العلم يكون فرض عين ، وفرض كفاية ، ونفلا ، وأن نافلته أفضل من قيام الليل وإحيائه  .

ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستزيده من شيء غير العلم ، قال تعالى : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) طه/114

ونصوص الكتاب  والسنة في فضل العلم كثيرة مشهورة ، ومن أجمعها : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) ، وابن ماجه (223) والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.

وليس في شيء من النصوص أن زيادة العلم سبب في الابتلاء والانحراف حتى يقال : ينبغي ترك هذه الزيادة إيثارا للسلامة ، وإنما الابتلاء والفتنة تحصل بأسباب أخرى كما سيأتي ، وتحصل للعالم والجاهل وطالب العلم .

بل عموم أدلة الشريعة تدل على أن وجود العلماء الراسخين سبب من أسباب الوقاية من الفتنة ، ورفع الضلال عن الأمة ، ولهذا أرشد الله تعالى إلى الرجوع إليهم في الملمات والشدائد فقال : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء/83

وقال سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) رواه البخاري (100) ومسلم (2673).

وهذا يدل على أن الرسوخ في العلم من أسباب حفظ العالم نفسه ، وحفظ الأمة به ، وأن الفتنة تحصل بغياب العلماء الراسخين ، وظهور أشباه العلماء ممن يفتي بغير علم وهدى .

وقد وعد سبحانه من جاهد واجتهد وحرص على الهداية أن يزيده هدى ، فقال : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت/69 وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) محمد/17

وهذه بشارة لطالب العلم الحريص على الهداية أن يزيده الله هدى وتقى ، فكيف يظن أن زيادة العلم من أسباب الانحراف والضلال !

وإذا وجد من انحرف وضل ممن اشتهر بشي من العلم ، فذلك يرجع – غالبا – إلى آفات صحبت العلم  ، منها : عدم الإخلاص في طلبه ، وحب الظهور والشهرة ، والافتتان بإقبال الناس وثنائهم ، أو الافتتان بالدنيا ومناصبها وزينتها ، وإلا فأكثر العلماء قد عصمهم الله من ذلك ، فكانت لهم السيرة العطرة ، والمواقف المحمودة في الثبات على الحق ، والصبر على الأذى ، ولا يزال في كل عصر ومصر من هؤلاء أعداد وجماعات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

وللشيخ ابن عثيمين رحمه الله كلمة نافعة في بيان أقسام العلماء ، قال رحمه الله :

" والمراد بالعلماء: العلماء الربانيون الذين هم العلماء حقيقة ؛ لأنك إذا تدبرت أحوال العلماء وجدت أنهم ثلاثة أقسام :

الأول: عالم ملة.

الثاني: عالم دولة.

الثالث: عالم أمة.

الأول: عالم ملة ، وهو الذي ينشر الملة ويبينها للناس ويعمل بها، ولا تأخذه في الله لومة لائم، هو يريد إقامة الملة لا غير، حتى إنه ليفتي أباه فيقول: يا أبت! هذا حرام، يا أبت! هذا واجب، ويفتي السلطان ويقول: هذا حرام وهذا حلال، لكن بالحكمة.

الثاني: عالم دولة ، ينظر ما تشتهيه الدولة فيحكم به ويفتي به حتى لو خالف نص الكتاب والسنة، وإذا خالف نص الكتاب والسنة شرع في تحريفه، وقال: المراد بكذا كذا وكذا، فحرف الكتاب والسنة لإرضاء الدولة.

الثالث: عالم أمة ، ينظر ماذا يريد الناس العامة فيفتيهم بما يستريحون إليه، حتى ولو كان على حساب نصوص الكتاب والسنة، ولذلك تجده يتتبع الرخص لإرضاء العامة، ويقول: هذه مسألة خلافية والأمر واسع. سبحان الله! الأمر واسع والله يقول عز وجل: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59] كيف تقول: هذه فيها خلاف وأمرها واسع؟! والله إن الأمر ضيق، وإذا وجد الخلاف يجب أن يحقق الإنسان في المسألة أكثر وأكثر حتى يتبين له الصواب، أما كونه يسترخي ويقول: هذه مسألة خلافية، والأمر واسع، وباب الاجتهاد مفتوح، وما أشبه ذلك، فهذا خطأ، الواجب أن يتبع الإنسان ما دل عليه الكتاب والسنة سواءٌ أرضى الأمة أم أسخطها، والله عز وجل يقول: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:65] ما قال: ماذا أجبتم العامة؟ ماذا أجبتم الدولة؟ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ " انتهى من "اللقاء الشهري".

وله رحمه الله كلمة أخرى في أهمية الرسوخ في طلب العلم لدفع الفتن والأهواء المنتشرة في هذا العصر ، قال رحمه الله :

" ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال , بل هو من الجهاد في سبيل الله , ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر , وبدأ الجهل الكثير  ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم , وبدأ الجدل في كثير من الناس , فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم :

أولاً : بدع بدأت تظهر شرورها .

ثانياً : أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم .

ثالثاً : جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم .

فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع , وعندهم فقه في الدين , وعندهم حكمة في توجيه عباد الله , لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ، ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم , وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا ، صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله " انتهى من "كتاب العلم" للشيخ ابن عثيمين , صفحة 23 .

وبهذا يتبين جواب الشبهة التي عرضت لك ، وتعلم أن ازديادك من العلم خير ورفعة في الدنيا والآخرة ، وسبب من أسباب البعد عن الضلال والفتنة والانحراف ، لك ، ولمن حولك ، بشرط أن يكون ذلك بتواضعٍ وإخلاص ، وبعدٍ عن الشهرة وحب الظهور ، وتقديمٍ لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم على أهواء النفس وشهواتها ، وأهواء الجماهير ورغباتها .

نسأل الله تعالى أن يزيدنا وإياك علما وهدى وتقى .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب