الحمد لله.
النشيد إذا تم تلحينه وفق الألحان والأوزان الموسيقية - وإن لم يكن معه آلآت موسيقية - فهو نوع من الغناء المذموم ، والذي لا يخلو من كراهة عند عامة العلماء . ينظر : "نزهة الأسماع" لابن رجب الحنبلي صـ59.
وذلك لأن التطريب والتلحين على وجهين :
إحداهما : ما اقتضته الطبيعة ، وسمحت به من غير تكلُّف ، ولا تمرين ، ولا تعليم ، بل إذا خُلِّي الإنسان وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين.
فذلك جائز .
والثاني : ما كان صناعة من الصنائع ، وليس في الطبع السماحة به ، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرُّن ، وتعلُّم أنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة ، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف .
فهذا الذي كرهه السلف وعابوه وذموه .
قال أبو الحسن القرافي: " الماضون من الصدر الأول حجةٌ على من بعدهم ، ولم يكونوا يلحِّنون الأشعار ولا ينغِّمونها بأحسن ما يكون من النَّغم ، إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي ، فإن كان صوتُ أحدهم أشجنَ من صاحبه ، كان ذلك مردوداً إلى أصل الخِلْقَة ، لا يتصنَّعون ولا يتكلَّفون ". نقله عنه في " الاعتصام " (1/208)
قال الشاطبي: " فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المُحْدَث ". انتهى من "الاعتصام" (1/208).
وقال ابن الحاج المالكي، رحمه الله : " وَنَحْنُ لَا نَذُمُّ إنْشَادَ الشِّعْرِ ، وَلَا نُحَرِّمُهُ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشِّعْرُ غِنَاءً مَذْمُومًا إذَا لُحِّنَ ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ ، وَهِيَ الشَّهْوَةُ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ لَحَّنَ ، وَأَلَذَّ ، وَأَطْرَبَ ، فَالْمَمْنُوعُ وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ اللَّذِيذُ الْمُطْرِبُ ... وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ فَافْهَمْهُ ." انتهى من " المدخل " (3 /191) .
وقال ابن عبد البر: " وأما الغناءُ الذي كرهه العلماء : فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء ، وإفساد وزن الشعر ، والتمطيط به ، طلباً للهو والطرب ، وخروجاً عن مذاهب العرب .
والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النَّصْب والحداء ، هم كرهوا هذا النوع من الغناء ". انتهى " التمهيد " (22/198).
والنَّصْب هو الصوت اليسير الذي يسمع من قرع الإبهام على الوسطى .
فهذا الغناء والنشيد يختلف عن غناء العرب في الحُداء والنَّصْب ، لأن غناء العرب لا يسيرُ وفق الألحان والإيقاعات الموسيقية الموزونة المتكلَّفة ، ولم تكن العرب تعرف الغناء بهذه الطريقة ، وإنما دخل عليها متأخراً .
قال الشاطبي: " العربُ لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناسُ عليه اليوم ، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقاً من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم ، بل كانوا يرققون الصوتَ ويمططونه على وجهٍ يليقُ بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى .
فلم يكن فيه إلذاذٌ ولا إطرابٌ يُلهي ، وإنما كان لهم شيء من النشاط ، كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله :
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ *** فَأَكْرِمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ ". انتهى "الاعتصام" (1/201).
ولذلك استنكر العلماءُ على من ألحق هذا النوع من الغناء بالحُداء والنَّصب لما بينهما من الفرق الكبير.
وقال ابن قدامة المقدسي عمن لا يُفرِّقُ بينهما : " ومَنْ هذه حاله لا يصلح للفتيا ؛ فإن المفتي ينبغي أن يكون عالماً باللسان ، لسان العرب ولغتهم مما يفتي فيه". انتهى ، نقله عنه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة "(1 / 263)
وقال ابن القيم رحمه الله: " الغناءُ المعتادُ بينَه وبينَ غناء الأعراب المرَّخص فيه ، كما بين المسكر والشراب الحلال ، وكما بين الميتة والمذكاة ". انتهى بتصرف من "الكلام على مسألة السماع"(418).
ولذلك لا يصح قياس أحدهما على الآخر في الجواز ، ففرق بين غناء ونشيدٍ يقال على السليقة والطبيعة ، وبين غناء يجري وفق الألحان الموسيقية المتكلفة ، ملتزمًا بأصول صنعة الغناء وألحانها ومقاماتها ، ونغماتها المرتبة على النِّسب الموسيقية .
بحيث يَطربُ وينتشي بها السامع ، حتى ربما لم يلتفت إلى ما فيها من المعاني ، والحكم والآداب ، لانشغاله بالطرب ، ونشوته باللحن .
وليت الأمر وقف عند النشيد وفق الألحان الموسيقية المتكلفة ، بل تعدى الأمر عند بعضهم إلى : سرقة ألحان المغنين والفساق !! .
وللاستزادة ينظر جواب السؤال (91142) ، (99176) ،
والحاصل : أنه ينبغي لأخيك أن لا يتعامل مع هذا الملحن
، وهذه الطريق وعرةٌ ، وغالباً ما يبدأ فيها الإنسان متمسكاً بالضوابط الشرعية ، ثم
يبدأ بالتنازل شيئاً فشيئاً .
فتلحين ، ثم دفوف ، ثم مؤثرات الصوتية ، ثم آلات موسيقية ، فضلاً عما في كثير من
الأناشيد من ابتذال في الكلمات والأسلوب .
وليحسن استعمال النعمة التي أنعم الله عليه بها وهي حسن الصوت ، فيستعملها في قراءة
القرآن وترتيله أو دعوة الناس إلى الصلاة بالأذان .
والله أعلم .
تعليق