الحمد لله.
الواجب على المسلم إذا سمع شرع الله أن يقبل ويسلم دون انتظار بيان وجه القياس العقلي والتعليل المنطقي ؛ وخاصة في أبواب العبادات ؛ لأن تعليل العبادات من الغيب الذي لم يطلعنا الله عز وجل على أكثر تفاصيله ، وخوض العلماء فيه إنما هو محاولة تلمس بعض أوجه الحكمة ، ولم يقع ذلك منهم على سبيل الجزم والقطع .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلَّف التعبد ، دون الالتفات إلى المعاني ، يدل عليه أمور : منها الاستقراء ؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ؛ كالصوم والحج ، وغيرهما .
وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يُفهم منها حكم خاص .
والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود .
والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتدِ إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ؛ فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك " انتهى.
" الموافقات " (2/513-520)
ويقول أيضا رحمه الله :
" عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء ، والصلاة في زمان مخصوص دون غيره ، والحج ، ونحو ذلك .
فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية ، ألا ترى أن الطهارات - على اختلاف أنواعها - قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي ، فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ، ودون أعضاء الوضوء .
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء ، وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران إذا فرض أنه لم يحدث .
ثم التراب - ومن شأنه التلويث - يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف .
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها لاستواء الأوقات في ذلك.
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا .
ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات ، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس ، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ، ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد .
فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر أو أربع كالظهر .
فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة ، وإذا قرأ آية سجدة سجد واحدة دون اثنتين .
ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى .
ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء ، دون صلاة الليل ورواتب النوافل .
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا ، فإنه غير مكلف ، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد ، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد .
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا ، كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات دون الملبوسات والمركوبات والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك ، وكان الجماع - وهو راجع إلى الإخراج - كالمأكول - وهو راجع إلى الضد - وكان شهر رمضان - وإن كان قد أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل .
ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع .
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه " انتهى باختصار.
" الاعتصام " (2/628-630) طبعة دار ابن عفان .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" العبادات منها ما حكمته معلومة لنا وظاهرة ، فالإنسان ينقاد لها تعبداً لله تعالى وطاعة له ، ثم اتباعاً لما يعلم فيها من هذه المصالح .
ومنها ما لا يعرف حكمته ، ولكن كون الله يأمر بها ويتعبد بها عباده هي حكمة ، كما قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )، وما يحصل في القلب من الإنابة لله والخشوع والاعتراف بكمال الرب ونقص العبد وحاجته إلى ربه - ما يحصل له في هذه العبادة فهو من أكبر المصالح وأعظمها " انتهى.
" مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (23/133)
وقد سبق تقرير هذه القاعدة في مواضع كثيرة في موقعنا ، يمكنك مراجعة بعضها في الأرقام الآتية :
(13932)، (50330)، (136549)
ولذلك كله : فغاية ما يمكن أن نجيب عليك به في الحكمة
من تثليث غسل أعضاء الوضوء هو زيادة التنظف والإنقاء ، فالثلاث عدد وسط ، ليس فيه
مشقة ولا إسراف ، كما أنه يحصل به إتمام الفرض على أكمل وجه ، وهو من الإسباغ
المأمور به في الوضوء ، ولذلك ورد التثليث في شريعتنا في كثير من الأبواب ، كأبواب
الأدعية والأذكار ، وآداب الطعام والشراب ، والعبادات ، وغير ذلك .
والله أعلم .
تعليق