الثلاثاء 18 جمادى الأولى 1446 - 19 نوفمبر 2024
العربية

حكم قول المتنبي ( بذا قضت الأيام ) وكذلك قول الشاعر : ( فرب العباد سريع النقم )

171379

تاريخ النشر : 19-08-2011

المشاهدات : 40886

السؤال

ما حكم قول القائل : " بذا قضت الأيام ما بين أهلها "، وهل الأيام تقضي . بارك الله فيكم .

الجواب

الحمد لله.


أولا :
العبارة المنقولة في السؤال هي شطر من أبيات مشهورة للمتنبي ، فيها حكمة بليغة ، سارت بها الركبان ، واستقرت في الأذهان ، وغدت مثلا على كل لسان ، وذلك في قصيدته التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني ، ويذكر هجوم الشتاء الذي عاقه عن غزو " خرشنة "، جاء في مطلعها :
عَواذِلُ ذاتِ الخالِ فيَّ حَواسِدُ وَإِنَّ ضَجيعَ الخَودِ مِنّي لَماجِدُ
إلى أن قال:
أخو غزواتٍ ما تغب سيوفهُ ... رقابهم إلا وسيحان جامدُ
فَلَم يَبقَ إِلّا مَن حَماها مِنَ الظُبا لَمى شَفَتَيها وَالثُدِيُّ النَواهِدُ
أي : هو مقيم على غزو الروم ، وغزواته متصلة ، لا تؤخر سيوفه رقابهم إلا إذا اشتد البرد وجمد واديهم ، وسيحان نهر هناك معروف ، قتل الروم وأفناهم ، فلم يبق إلا النساء اللواتي منعها من السيوف سواد شفاههن ، ونهود ثديهن ، يعني الجواري .
تبكي عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقياتٌ كواسدُ
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
يريد أنه أسر بنات بطاريق الروم فهم يبكون عليهن ليلا ، وهن ذليلاتٌ عند المسلمين ، هكذا عادة الأيام ، سرور قوم مساءة آخرين ، وما حدث في الدنيا حدث إلا سر به قوم ، وسيء به آخرون . انظر: " شرح ديوان المتنبي للواحدي " (ص/233 ترقيم الشاملة آليا)

ثانيا :
قول المتنبي : " قضت الأيام " يسميه علماء اللغة " المجاز العقلي "، وتعريفه عندهم هو : إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له .
يقول الدكتور فضل حسن عباس رحمه الله :
" توضيحا لهذه الجملة نقول :
إذا قلت : " سال الماء في الوادي "، " فاض الماء من الكأس "، " نبت البقل في فصل الربيع "
قف أمام هذه الجمل واحدة واحدة ، تجد أن الإسناد في كل منهما إسناد حقيقي ، فهو إسناد الفعل أو ما يشبهه لما هو له ، ألا ترى أن إسناد " سال " و " فاض " إلى الماء إسناد حقيقي ؟ ، وإسناد النبت إلى البقل في فصل الربيع كذلك .
ولكن سعة اللغة وفن التعبير يكسبان الكلام زهوا وبهاء ، فيمكننا أن نقول " فاض الكأس "، " سال الوادي "، " أنبت الربيع البقل "، " أشابتنا الهموم "
في هذه العبارات جميعا نجد أننا أسندنا الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له ، فإن الكأس والوادي لم يسيلا ، ولكن سال الماء الذي فيهما ، ومن هنا كان المجاز ... ولكي تتضح لك صورة هذا المجاز نذكر لك مزيدا من الأمثلة : قال تعالى : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) غافر/36، وقال تعالى في شأن فرعون : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) القصص/4.
وإسناد البناء إلى هامان ، والتذبيح والاستحياء إلى فرعون إسناد مجازي علاقته السببية ؛ لأن هامان سبب في البناء ، وهو المشرف عليه ، ولأن فرعون هو السبب في التذبيح والاستيحاء ، والباني في الحقيقة العَمَلَة ، والمذبح والمستحيي هم الجنود .
إن للمجاز العقلي في الكلام لشأنا عظيما ، ولذا فأنت تراه مرتكزا في طبائع الناس ، يعبرون به وإن لم يعرفوا اسمه ، ألا تسمعهم يقولون : فلان أصلحه الزواج وغيَّره المال ، وأنت نجَّتك أمانتك ، وفلان نفعته تقوى والديه ، وهذا رفعَه العِلْم ، وذاك قتله طمعه ، وهذه أشقاها جمالها ، وتلك سما بها خلقها ، وعلَّمنا الاستعمار دروسا لا ننساها ، ويقول بعضهم لبعض : منزلك عامر ، وسفرة دائمة ، إلى غير ذلك من العبارات الكثيرة ، وكلها من المجاز العقلي كما ترى " انتهى من " البلاغة فنونها وأفنانها " (ص/139-143)

والشاهد من هذا كله بيان أن المسلم العربي حين يقول : " قضت الأيام " فهو لا ينسب القضاء إلى الأيام على الحقيقة ، وإنما على المجاز العقلي ، والتقدير : قضى الله عز وجل في الأيام ، وليس في ذلك حرج شرعي .

ثالثا :
لهذا الأمر شواهد كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة ، ومن ذلك :
قوله تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ) المزمل/17، فتأمل كيف أسند إشابة الولدان إلى يوم القيامة ، مع أن المشيب الحقيقي هو الله عز وجل .
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
" فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة ، اليوم المهيل أمره ، العظيم قدره ، الذي يشيب الولدان ، وتذوب له الجمادات العظام ، فتتفطر به السماء ، وتنتثر به نجومها " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (ص/894)
وأيضا في قوله عز وجل : ( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) هود/84 ، أسند الإحاطة إلى اليوم ، مع أن المحيط هو عذاب الله ، وأما الزمان فلا يحيط بنفسه .
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
" فجعل ( المحيط ) نعتًا لليوم ، وهو من نعت " العذاب "، إذ كان مفهومًا معناه ، وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم : " بعْض جُبَّتك محترقة " انتهى من " جامع البيان " (15/445)
وجاء في " تفسير الجلالين " (ص/297) :
" ( عذاب يوم محيط ) بكم يهلككم ، ووصف اليوم به مجاز لوقوعه فيه " انتهى.

رابعا :
تقريرنا للمجاز العقلي في هذا المقام يبين لك الفرق الدقيق بين استعمال المجاز العقلي في مكانه المقبول لدى جميع المسلمين ، وبين الاحتجاج بالمجاز العقلي على صرف العبادة لغير الله تعالى .
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي رحمه الله ( المتوفى سنة 1326هـ ) :
" تحقيق القول في ذلك الباب أنا لا ننكر المجاز العقلي ، ولكن لابد هناك من التفصيل :
وهو أنه إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما يقدر عليه العبد لغير الله تعالى يجب حمله على الحقيقة ، ولا يصح حمله على المجاز العقلي كما في الأمثلة المذكورة .
وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل فلان شفاني ، وفلان رزقني ، وفلان وهب لي ولداً ، يجب حمله على المجاز العقلي .
ولكن لا مطلقاً ، بل متى لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية مما هو كفر بواح ، وشرك قراح .
وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي ، إذ المؤمن بهذا اللفظ والعمل قد انسلخ من الإيمان فلم يبق مؤمناً ، فلا وجه لهذا الحمل ، ولا ريب في أن عبدة الأنبياء والصالحين يصدر منهم من الألفاظ والأعمال ما هو كفر صريح كالسجدة والطواف والنذر والنحر ونحو ذلك " انتهى من " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان " (ص/238)، وللتوسع في هذا الموضوع يمكن مراجعة : "جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية" (2/1021-1029)، " هذه مفاهيمنا " للشيخ صالح آل الشيخ (122-138)

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب