الحمد لله.
أولا :
يخطئ من يظن أننا حين نكتب عن الدولة الأموية أو الدولة العباسية أو غيرها من الدول أننا نكتب بروح المدافع والمنافح عن كل ما وقع فيها ، حاشا وكلا ، ولا يجوز لمسلم أن يتحمل وزر الظلم في أي مرحلة من مراحل التاريخ ، فهو حين يدافع عنه اليوم في الأوساط العلمية والثقافية يناله نصيب من إثمه .
بل نعتقد أن الدولة الأموية كغيرها من الدول لها ما لها من فضائل ، وعليها ما عليها من المظالم ، لها المآثر الحميدة بنشر الإسلام ، وتثبيت أركان الأمن والنظام ، ونشر العلم والتشجيع عليه ، وعليها بعض المساوئ التي من أقبحها التجافي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآل بيته الكرام ، وإظهار شتمهم والتنقص منهم ، وسفك دماء المسلمين في سبيل تثبيت الحكم لدولتهم ، والاستئثار بحظوظ الدنيا وأموال الأمة .
روى مسلم في " صحيحه " (2409) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ :
( اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ ، قَالَ : فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا قَالَ : فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ : أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَقُلْ : لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ ، فَقَالَ سَهْلٌ : مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا ) إلى آخر الحديث .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
" التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم ، وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى ، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان ، وهذا كله - سواء كان ذنباً أو اجتهاداً مخطئاً أو مصيباً - فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، وغير ذلك " انتهى باختصار من " منهاج السنة " (4/468)
ثانيا :
يؤمن أهل السنة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أفضل الصحابة الكرام ، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته ، ورابع الخلفاء الراشدين ، ومن العشرة المبشرين بالجنة ، وردت فضائله في السنة الصحيحة والآثار الكثيرة ، حتى قال رضي الله عنه : ( وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ : أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ ) رواه مسلم (78)
ولذلك ما زال أهل السنة يحاربون النواصب الذين يناصبون علي بن أبي طالب العداء ، ويواجهون الخوارج الذين وقعوا في علي رضي الله عنه وكفروه ، وكتب عقائد السنة مليئة بذلك لمن أراد التثبت .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ولله الحمد ، ومن طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (8/165)
ويقول أيضا رحمه الله :
" وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله " انتهى من " منهاج السنة " (7/218)
ويقول أيضا رحمه الله :
" كتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه ، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق ، وهم ينكرون على من سبه ، وكارهون لذلك ، وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين ، من جنس ما جرى من القتال ، وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب .
بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدراً ، وأحق بالإمامة ، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيراً منه ، وعلي أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه ، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من معاوية ، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم ، وعلي أفضل من جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة ، بل هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة ، فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة ، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان ، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار " انتهى من " منهاج السنة " (4/396)
فإذا وقع العداء لعلي بن أبي طالب من بعض الخلفاء الأمويين ، واشتهر النصب في زمانهم لجميع آل البيت الكرام الأطهار ، فليس ذلك بحجة على أهل السنة ؛ لأن أهل السنة يتبرؤون من الناصبة ومن كل من يقع في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وجهودهم في الرد على الناصبة والإنكار عليهم مشهورة لا يحصرها ديوان .
ثالثا :
بعد ذلك كله نقول : إن الأثر المروي في السؤال ورد من كلام أبي عبدالرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ ( المتوفى سنة 213هـ) قال :
" كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه ( علي ) قتلوه ، فبلغ ذلك رباحا فقال : هو عُلَيٌّ ، وكان يغضب مِن علي ، ويحرج من سماه به " انتهى.
رواه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (41/480) قال : قرأت على أبي القاسم بن عبدان ، عن أبي محمد بن علي بن أحمد بن المبارك ، أنا رشأ بن نظيف ، أنا محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، أنا محمد بن محمد ، نا عبد الرحمن بن سويد بن سعيد ، نا سلمة بن شبيب قال : سمعت أبا عبد الرحمن المقرئ...فذكره .
وهذا إسناد ضعيف جدا:
العلة الأولى : عبد الرحمن بن سويد بن سعيد : لم نقف له على ترجمة ، بل لم نجد من يحمل هذا الاسم في كتب العلماء ولا في كتب الشيعة .
العلة الثانية : محمد بن محمد ، هو ابن داود بن عيسى الكرجي ، نزيل طرسوس : لم نقف على من يذكره بجرح أو تعديل .
العلة الثالثة : محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، هو محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد أبو الفتح الجحدري الطرسوسي الغازي البزاز المعروف بابن البصري ، ترجمته في " تاريخ بغداد " (2/315)، لم ينقل توثيقه سوى عن الأزهري ، وذلك غير كاف في قبول تفرده بمثل هذا الخبر الخطير الشأن ، وانظر ترجمته في " تاريخ دمشق " (51/233)، وفي " تاريخ الإسلام " للذهبي (9/155)
رابعا :
ثم إن في متن الأثر المذكور غرابة أو نكارة من وجوه كثيرة :
منها : أن أحدا من المؤرخين الكبار أو الرواة أو العلماء لم يذكر نحو هذا الكلام ، ولا شك أن مثل هذه الفعلة الشنيعة ، لو كانت حقا قد وقعت ، لتوفرت الهمم على نقلها.
ومنها : أن العلماء والرواة والناس الذين يحملون اسم " علي " وعاشوا في الحقبة الأموية لا يحصون كثرة ، فكيف عاش هؤلاء ولم يلاحقوا ، ويكفي الباحث أن يدخل اسم ( علي ) في كتاب كـ " سير أعلام النبلاء "، وينظر عدد النتائج في تلك الحقبة ، فسيجد من ذلك عددا كثيرا.
ومنها : أن علي بن رباح هذا ولد في أول خلافة عثمان قبل دولة بني أمية ، فكيف يقال إن أباه غيَّر اسمه عند مولده خوفا من سطوة بني أمية .
يقول الإمام الذهبي رحمه الله :
" قوله : ( مولود ) لا يستقيم ؛ لأن عليا هذا ولد في أول خلافة عثمان ، أو قبل ذلك بقليل ، وكان في خلافة ابن أمية رجلا لا مولودا " انتهى من " تاريخ الإسلام " (7/251)
ومنها : أن ابن حبان رحمه الله ذكر سببا آخر لتغير اسم ( علي ) ، وذلك في قوله : "علي بن رباح اللخمي ، أبو موسى ، من ثقات أهل مصر ، وهو الذي يقال له : عُلي بن رباح ، وكان يقول : من قال لي عَلي ليس مني في حل ، وذاك أن أهل الشام كانوا يصغرون كل عَلي لِما في قلوبهم لأمير المؤمنين علي بن أبى طالب " انتهى من " مشاهير علماء الأمصار " (ص/197) فذكر ههنا أن سبب تصغير اسم علي بن رباح ليس الخوف من حكام بني أمية ، وإنما لانتشار النصب في بلاد الشام يومئذ ، وكان علي منهم ، فأبى أن يسمَّى إلا بالتصغير مخالفة لاسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وبهذا يتبين أن الخبر المنقول لا قيمة له من حيث الإسناد ، ولا قبول له من حيث المتن.
والله أعلم .
تعليق