الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

بعد أداء الحج هل يضمن المسلم غفران ذنوبه أم يبقى خائفاً قلقاً ؟

السؤال

هناك حديث يقول : بأنك لو أديت الحج بطريقة صحيحة فستعود كما ولدتك أمك عاريا من كل خطيئة ، ولله الحمد قد أديت فريضة الحج ، وإن شاء الله هي صحيحة ، و لكن من وقت لآخر وأثناء الصلاة أتذكر خطاياي التي ارتكبتها من قبل الحج ، وأشعر بالضيق الشديد والخوف ، وأسأل الله العفو والمغفرة ، فهل ينبغي علي أن أكون دائماً في تأنيب للضمير ، أم يجب علي أن أكون متفائلاً بأن الله سيغفر لي ، ولا أحاول أن أتذكر تلك الخطايا ؟ .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) .
رواه البخاري ( 1449 ) ومسلم ( 1350 ) .
وننبه هنا إلى أمرين :
الأول : أن هذا هو جزاء الحج المبرور ، فمن حج بمال حرام ، أو كان حجه غير خالص لله تعالى أو حصل منه رفث أو فسوق لم يكن حجه مبروراً ولم يرجع كيوم ولدته أمه .
قال ابن عبد البر – رحمه الله - :
وأما الحج المبرور : فقيل : هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، ولا رفث فيه ولا فسوق ، ويكون بمال حلال .
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 22 / 39 ) .
وقال بعض أهل العلم إن الحج المبرور هو المقبول وعلامة قبوله أن لا يعاود العبد معصية ربه تعالى ، وأن يرجع الحقوق إلى أهلها .
وانظري جواب السؤال رقم ( 26242 ) .
الثاني : أن الحج لا يسقط الحقوق الواجبة كالكفارات والديون ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم ( 138630 ) .

ثانياً:
المسلم الذي يكرمه ربه تعالى بأداء مناسك الحج ينبغي أن يكون خائفاً أن لا يكون قد قُبِل منه عمله ، وليس هذا من أجل أن يصير قانطاً من رحمة ربِّه تعالى بل حتى لا يصيبه الغرور ، وحتى يُقبل على ربِّه عز وجل بدعاء صادق أن يتقبل منه ويقبل عليه بعمل صالح يزيد في ميزانه يوم يلقى ربَّه تعالى ، قال الله سبحانه وتعالى – في وصف المؤمنين – ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) المؤمنون/ 60 ، 61 .
عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) المؤمنون/ 60 ] قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ : لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) .
رواه الترمذي ( 3175 ) وابن ماجه ( 4198 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".

فهذا الخوف من أولئك المؤمنين لم يجعلهم في قنوط من رحمة ربهم ، بل لقد جمعوا معه الرجاء بربهم وحسن الظن به عز وجل أن يثيبهم وأن يُكرمهم ، وإنما دفع أولئك الأولياء المؤمنين للخوف من عدم قبول أعمالهم أمران : سوء ظنهم بأنفسهم أن لا يكونوا أحسنوا العمل ، وعظيم محبتهم لربهم عز وجل .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
فإذا خاف – يعني : المؤمن - فهو بالاعتذار أولى ، والحامل له على هذا الاعتذار أمران : أحدهما : شهود تقصيره ونقصانه ، والثاني : صدق محبته ؛ فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحٍ منه أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه ، وهذا مشاهد في محبة المخلوقين .
" مدارج السالكين " ( 2 / 325 ) .

والخلاصة :
أن الواجب عليك أن تجمعي بين الأمرين ، لا تتركي واحدا منهم :
الأول : ألا تستعظمي ذنوبك في مقابل مغفرة الله تعالى ورحمته ، وإنما خوف المؤمن من تقصيره في التوبة وتقصيره في الطاعة التي تكفر الذنوب ، فاجعلي خوفك هذا دافعاً لك للمزيد من الطاعات ولسؤال الله عز وجل بصدق أن يتقبل منك ويجعلك من المقربين ، واحذري أشد الحذر من القنوط من رحمة ربك عز وجل .
الثاني : حسن الظن بالله جل جلاله ، والطمع في عفوه ومنه وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء ؛ فما دمت على استقامة من أمر ربك ، وتعظيم لشرعه ، ومسارعة في طاعته : فليكن مع ذلك دوماً حسن الظن به عز وجل أن يتقبلها منك ويثيبك عليها .
قال الحافظ ابن حجر – في شرح الحديث القدسي المتفق عليه ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) - :
وقال القرطبي في " المفهم " : قيل : معنى " ظن عبدي بي " ظن الإجابة عند الدعاء ، وظن القبول عند التوبة ، وظن المغفرة عند الاستغفار ، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكاً بصادق وعده , وقال ويؤيده قوله في الحديث الآخر: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)
قال : ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقناً بأن الله يقبله ويغفر له ، لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها ، وأنها لا تنفعه : فهذا هو اليأس من رحمة الله ، وهو من الكبائر , ومن مات على ذلك وُكِلَ إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور " فليظن بي عبدي ما شاء " قال : وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغِرَّة ، وهو يجر إلى مذهب المرجئة .
" فتح الباري " ( 13 / 386 ) .

نسأل الله أن يتقبل منك عملك الصالح ، وأن يجعل حجك مبرورا ، وأن يثيبك عليه خير الثواب وأجزله وأحسنه .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب