الحمد لله.
لا شك – أخي السائل – أن ما فعلته وتفعله مع والدك إثم عظيم وخطأ جسيم ، فأنت بهجرك والدك تقطع ما أمرك الله أن تصله ، وتعق أباك الذي فرض الله عليك أن تبره ، وتسيء لمن أوجب الله عليك الإحسان إليه ، وما تذكره من حدوث مشكلات بينك وبين والدك لا يسوِّغ لك مقاطعته ولا ترك السلام عليه ، وإذا كان الشرع المطهر قد نهاك أن تهجر المسلمَ الذي لا يربطك به نسب ولا تجمعك به قرابة فوق ثلاث ليال ، فكيف أن يكون هذا المهجور هو والدك ؟!.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - : " الأسباب التي يستحق فاعلها دخول النار دون الخلود فيها :
السبب الأول : عقوق الوالدين وهما الأم والأب , وعقوقهما : أن يقطع ما يجب لهما من بر وصلة ، أو يسيء إليهما بالقول أو الفعل , قال الله تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء/ 23،24 ، وقال تعالى ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) لقمان/ 14 ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والدَّيُّوث الذي يقر الخبث في أهله ) – رواه أحمد بإسناد حسن - " انتهى من " مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 20 / 383 ، 384 ) .
وليس ثمة إساءة ولا عقوق أعظم من هجرك والدك ومقاطعته ، وقد عدَّ بعض العلماء عدم القيام للوالدين ، أو التقطيب في وجههما : من العقوق ؛ فكيف بك وقد هجرت والدك ثلاث سنين ، ورأيته ولم تلق عليه السلام ، بل وتتمنى لو الموت ؟! فهذا – ولا شك – من العقوق له .
قال الصنعاني – رحمه الله – نقلاً عن البلقيني - : " لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه ، أو قطَّب في وجهه : فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية ، فهو عقوق في حق الأبوين " انتهى من " سبل السلام " ( 4 / 163 ) .
ولتعلم أنه لا يحل لك هجر والدك ولو كان عاصياً ، بل ولو كان كافراً يبذل الجهد ليجعلك كافراً مشركاً ، فإن الله تعالى ينهى الولد عن الاستجابة له ، ويأمره أن يصاحبه بالمعروف ، فإذا كان الوالدان اللذان يدعوان أولادهما للكفر ، يُصاحَبان بالمعروف وجوباً ؛ فكيف إذا كانا مسلمَين موحِّدين ؟! .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
نحن أربعة إخوة قد هدانا الله على يد أخي الأكبر ، ولكنَّ أبي يسبُّنا ويلعننا وقد تحملناه وصبرنا على إيذائه لنا أربع سنوات ، مع العلم أنه يوالي بعض الناس الذين يعينونه على المعاصي ، ولا يحافظ على الصلاة ، بل أحيانا يتركها بالمرة ، وفي النهاية تركنا البيت ، وهجرناه ، فهل نأثم في ذلك مع العلم أننا نصلُ أمَّنا ؟ .
فأجاب : " الواجب عليكم أن تسألوا الله الهداية لأبيكم ، وأن تناصحوه دائماً ، ولا يحل لكم أن تهجروه ، ولا أن تعقُّوه ؛ لأن الله تعالى قال ( وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) لقمان/ 14،15 ، فهذه الصورة التي ذكرها الله عز وجل يبذلان الجهد في ولدهما أن يشرك بالله ، ومع ذلك يقول الله عز وجل ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) ، فعليك أن تبرَّ والديك ، وربما يكون برُّك لهما سبباً في صلاحهما .. " انتهى من " اللقاء الشهري " ( شريط رقم 39 ) .
فنظن الأمر قد اتضح لك – أخي السائل – وأن ما بينك وبين والدك من مشكلات لا يبيح لك هجره ، ولا ترك السلام عليه ولا تمني الموت له ، وأنه لو كان عاصياً ، بل ولو كان كافراً ما جاز لك ما تفعله معه ، فالمرجو منك الاستجابة لأمر الله تعالى ، وأن تبادر إلى والدك فتعتذر منه على ما بدا منك ، وأن تقبِّل يده ، وترجو منه المسامحة والعفو ، وأن تدعو له أمامه وفي غيبته ، مع التوبة إلى الله مما بدر منك تجاهه ، ونسأل الله أن يوفقك للقيام بذلك كله عاجلاً غير آجل .
والله أعلم
تعليق