الحمد لله.
أولا :
لعل الحديث المقصود في السؤال هو ما يروى عن صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صَلَاةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعًا حَيْثُ لَا يَرَاهُ النَّاسُ تَعْدِلُ صَلَاتَهُ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ )
أخرجه أبو يعلى في " المسند " – كما عزاه إليه ابن حجر في " المطالب العالية " (4/534)، ورواه من طريقه ابن نقطة في " إكمال الإكمال " (3/337) – وأخرجه ابن شاهين (ت385هـ) في " الترغيب في فضائل الأعمال " (ص/28)
قال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن سعد ، ثنا يحيى بن صالح ، عن جابر بن غانم السلفي ، عن ابن صهيب ، عن أبيه صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكر الحديث .
وأما إسناد ابن شاهين فقال فيه : حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، نا عمرو بن عثمان الحمصي ، نا أبي ، نا جابر بن غانم ، حدثني ابن صهيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكره .
وهذه أسانيد ضعيفة فيها علل مشتركة :
العلة الأولى :
لم نتمكن من تعيين ابن صهيب هذا ، فصهيب الرومي له ثلاثة من الأبناء الرواة أحدهم صالح بن صهيب ، ليس له رواية في الكتب الستة سوى ابن ماجة ، ولم نجد فيه جرحا ولا تعديلا ، لذلك وسمه الحافظ ابن حجر رحمه الله بأنه " مجهول الحال "، ينظر " تهذيب التهذيب " (4/395)، والثاني : صيفي بن صهيب ، تفرد به أيضا ابن ماجة ، ولم نجد فيه جرحا ولا تعديلا ، وإنما ذكره ابن حبان في " الثقات " ذكرا مجردا ، لذلك وصفه الحافظ ابن حجر بأنه : " مقبول "، أي حيث يتابع وإلا فلين الحديث . انظر : " تهذيب التهذيب " (4/441)، والثالث : حمزة بن صهيب ، ذكره ابن حبان في " الثقات " كما في " تهذيب التهذيب " (3/30)
ولم نجد في تلاميذ أحدهم راو اسمه جابر بن غانم ، وإنما ذكر في تلاميذ عبد الحميد بن صيفي بن صهيب الرومي ، كما في " تهذيب التهذيب " (6/117)، فلعل إسناد ابن شاهين الذي يقول فيه : " جابر بن غانم ، حدثني ابن صهيب ، عن أبيه ، عن جده "، أصوب وأقرب للجادة ، ولكن تبقى العلة واحدة ، وهي جهالة حال كل من عبد الحميد بن صيفي وأبيه صيفي بن صهيب .
العلة الثانية :
جابر بن غانم فليس لأحد من نقاد الرجال فيه كلام سوى ما قاله أبو حاتم رحمه الله إنه " شيخ "، كما في " الجرح والتعديل " (2/501)، وسكت عنه البخاري في " التاريخ الكبير " (2/209)، وذكره ابن حبان في " الثقات " (6/142).
وهكذا فأصل الإسناد فيه بعض
الثغرات ، ولا يمكن أن يصحح الحديث أو يحكم له بالقبول وهو على هذا الحال .
لذلك قال البوصيري رحمه الله :
" التابعي لم يسم " انتهى من " إتحاف الخيرة المهرة " (2/375)
ثانيا :
الحديث الثاني الوارد في السؤال يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة )
مدار هذا الحديث على منصور بن المعتمر ، يرويه عن شيخه هلال بن يساف ، ولكن اختلف
الرواة على منصور على وجهين :
فرواه قيس بن الربيع ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن صهيب بن النعمان رضي الله
عنه ، مرفوعا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كما عند الطبراني في " المعجم
الكبير " (8/46)، ومن طريقه ابن الأثير في " أسد الغابة " (3/41)
ورواه كل من أبي عوانة وسفيان الثوري ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن ضمرة بن
حبيب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، موقوفا من كلام هذا الصحابي
الذي أبهم اسمه ، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كما عند عبد الرزاق في "
المصنف " (3/70)، وابن أبي شيبة في " المصنف " (2/60)، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(4/544)
وقد رجح النقاد الوجه الثاني
؛ لأن الثوري وأبا عوانة أوثق من قيس بن الربيع ، بل إن قيسا متكلم فيه ، ضعفه علي
بن المديني ، وقال فيه النسائي : ليس بثقة ، وقال ابن معين : ليس بشيء ، وقال
الدارقطني : ضعيف الحديث ، ينظر : " تهذيب التهذيب " (8/394)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وهو غلط من قيس " انتهى من " إتحاف المهرة " (16/490)
وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق رواية قيس بن الربيع :
" وهذا غريبٌ من هذا الوجه " انتهى من " جامع المسانيد " (4/345)
وأما الإسناد الموقوف فهو
إسناد صحيح مقبول .
قال المنذري رحمه الله :
" إسناد جيد " انتهى من " الترغيب والترهيب " (1/171)، وصححه الشيخ الألباني موقوفا
في " صحيح الترغيب والترهيب " (1/106)، وأما في " السلسلة الصحيحة " (رقم/3149)
فقال إن له حكم الرفع ، غير أننا لا نرى الجزم بحكم الرفع لمثل هذا الكلام الموقوف
؛ لأن للاجتهاد فيه مدخل من جهة أن تفضيل الصلاة في السر على صلاة العلن أمر له
شواهد كثيرة في الشريعة، وليس من المستبعد أن يكون ذلك من كلام الصحابي وليس من
كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وتشبيه ذلك بتفضيل صلاة المكتوبة على النافلة أيضا
من الاجتهاد ، يمكن أن يريد به الصحابي الجليل مطلق وجه الشبه الذي هو عظم المفاضلة
بين صلاة السر وصلاة العلن ، وليس المقصود به التشبيه التام المحدد بالأعداد
والأرقام .
وعلى كل حال فلا شك أن
المقصود تفضيل صلاة النافلة في البيت - حيث لا مطمع لنظر الناس - على صلاة المرء
على أعين الناس ، ليكون أقرب إلى الإخلاص والصدق مع الله تعالى ، وأبعد عن الرياء
والسمعة ، كما قال جل وعلا في شأن الصدقات : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )
البقرة/271.
والنافلة هنا تشمل جميع النوافل التي لا يستحب فيها الجماعة كالكسوف والتراويح ،
أما سائر النوافل الأخرى – سواء كانت راتبة قبلية أم بعدية أم مطلقة – فالأفضل أن
تصلى في المنزل ، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : ( صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ
فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ
إِلَّا المَكْتُوبَةَ ) رواه البخاري (731)، وانظر جواب السؤال رقم : (22209)
والله أعلم .
تعليق