الحمد لله.
أولاً :
صح عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : ( خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ) أخرجه مسلم (2996) .
وقوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مما وصف لكم ) أي مما وصف لكم في الكتاب والسنة ، كقوله
تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) غافر/67 .
ثانيًا :
لم نقف على دليل صحيح صريح في الأصل الذي خلقت منه الحيوانات والبهائم ، لكن ذهب
البعض إلى أنها خلقت من ماء استدلالاً بظاهر قوله تعالى :
( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
النور/ 45 .
لكن ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالماء هنا المني ، وقال بعضهم أن المقصود أن
الماء جزء مما خلقت منه .
قال القرطبي في تفسيره (12/291) :
" والدابة كل ما دب على وجه الارض من الحيوان ، يقال : دب يدب فهو داب، والهاء
للمبالغة .. لم يدخل في هذا الجن والملائكة ، لأنا لم نشاهدهم ، ولم يثبت أنهم
خلقوا من ماء ، بل في الصحيح ( إن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا من نار( .
وقال المفسرون : " من ماء " أي من نطفة .
قال النقاش: أراد أمنية الذكور.
وقال جمهور النَّظَرة : أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء ، كما خلق آدم من الماء
والطين ، وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة
بدر: ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نحن من ماء ) الحديث .
وقال قوم : لا يستثنى الجن والملائكة ، بل كل حيوان خلق من الماء ، وخلق النار من
الماء ، وخلق الريح من الماء ، إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء ، ثم خلق
منه كل شيء .
قلت : ويدل على صحة هذا قوله تعالى : ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ )
المشى على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره .
وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى ، والأربع لسائر الحيوان " انتهى باختصار .
وذهب آخرون إلى أنها خلقت من
تراب واستدلوا لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ( يحشر الخلائق
كلهم يوم القيامة والبهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ
للجماء من القرناء ، ثم يقول كوني ترابًا ، فذلك حين يقول الكافر يا ليتني كنت
ترابًا ).
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (30/17) ، والسيوطي في الدر المنثور (6/310) ،
وقال الألباني في " الصحيحة " (4/607) : إسناده جيد ، وقال أحمد شاكر في " عمدة
التفسير " (1/772) : إسناده صحيح .
وقالوا : فإذا كان الله تعالى يصيرهم ترابًا في النهاية ، وقد قال سبحانه : (
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) الأنبياء/104 ،
فهذا يدل على أن أصلهم من تراب .
لكن في هذا الاستدلال نظرا ،
وقد يرد عليه أن المقصود بالآية أن الله سيعيد كل الخلائق إلى الحياة كما بدأها أول
مرة ، كما جاء في قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ . إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس/ 78-83 .
وليس المقصود أن كل خلق سيعود لأصل المادة التي خلق منها ، فيعود الإنسان ترابًا ،
والجن نارًا ، والملائكة نورًا .
والخلاصة أننا لا نجد من
نصوص الكتاب والسنة ما يمكن الاعتماد عليه بشكل جازم في تحديد الأصل في مادة خلق
الحيوانات والبهائم ، وهذه من مسائل الغيب التي يجب الاعتماد فيها على نصوص الوحي ،
ولا ينبغي الجزم فيها بشيء لم تحدده النصوص ، والأولى الانشغال بطلب العلم النافع ،
وترك ما كان العلم به لا ينفع ، والجهل به لا يضر .
والله أعلم .
تعليق