الحمد لله.
أولاً :
نسأل الله أن يثبتك على الدين ويهديك إلى سواء السبيل وأن يبعد عنك المضلات والفتن ، والتوبة بابها مفتوح ، وقد جاء أناس بذنوب أعظم بكثير وقبَل الله توبتهم كالذي قتل مئة نفس فتاب فتاب الله عليه ، وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم / 8 ، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً ) رواه مسلم ( 2687 ) .
بل إن الله يفرح لتوبة عبده - مع استغنائه تعالى عن خلقه ومع توفيقه عبدَه للتوبة - كما جاء في حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ) رواه مسلم ( 4932 ) .
إلا أنه لا يغني عن الإنسان شيئاً قوله " أنا تبت " ، ولا يفعل ما يُمليه عليه دينه وما تأمره به الشريعة ، فللتوبة شروطها المعروفة وهي : الإخلاص ، والندم ، والإقلاع عن الذنب ، والعزم على عدم الرجوع إليه ، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها – وانظري جواب السؤال رقم ( 13990 ) - .
والحمد لله فقد رزقتِ نفساً لوَّامة تؤنب على المعصية وهذه دلالة خير وبشرى لك فاغتنمي هذه الفرصة للتوبة والإنابة ورد الحقوق إلى أهلها .
ثانياً:
والمال الذي أخذتِه على قسمين :
1. أن يكون صاحبُه معروفاً كوالديك وإخوانك ومعلمك وغيرهم فعليك رد حقهم إليهم ،
ولا يلزمك إخبارهم بما فعلتِ – كما تصرفتِ مع المدرس الأول - بل يكفي منك إيصال
حقِّهم لهم كما فعلتِ مع المدرِّس الآخر .
ويُستثنى ممن سبق : والدُك ؛ لأن نفقتك واجبة عليه ، فإذا كان الأب لم يكن ينفق
عليكِ نفقتك الواجبة عليه فلكِ الأخذ من ماله ما يكفيك بالمعروف ؛ لإذن النبي صلى
الله عليه وسلم – كما في الصحيحين - لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان
ما يكفيها وولدها بالمعروف ، فإن كنتِ أخذتِ أكثر من حاجتك أو كان والدك غير ممتنع
عن النفقة عليك فيلزمك رد حقِّه له ، أو استسماحه فيما أخذت من ماله من غير إذنه .
2. أن يكون صاحبُه غير معروف العين أو لا يمكن معرفة مكان وجوده : فتقدِّرين قدر
المال المأخوذ منهم بغير حق وتتصدقين به عنهم في وجوه الخير المختلفة .
وأما شأن المعلم الذي لم تتأكدي من وصول المال إليه : فهذا أمره هين بأن تتصلي
عليه أو تبعثي له رسالة على البريد ، أو بأي طريق مشابه ، وتستفسري منه عن وصول
المال له ، فإن قال إن المال قد وصله فقد برأت ذمتك ، وإن لم يصله ، فتردين له حقه
؛ لأنَّ الشخص الذي أوصلتِ المال عن طريقه غير معروف عندك في الأصل ولا هو مزكَّى
من أحد .
فإذا تعذر عليك ذلك ، فنرجو أن يكون الله قد أدى عنك ما أرسلت لهذا الأستاذ ، وأن
تكون ذمتك قد برأت بذلك .
ثالثاً:
أما سؤالك عن كيفية إطابة مطعمك : فالجواب عنه : أنه بالعمل المباح والأكل من
الحلال ، فمن كان كسبه من عمل حلال وأكل مما أباحه الله تعالى له من المطعومات فقد
أطاب مطعمه ، وهو أمر الله تعالى للمرسلين والمؤمنين ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) المؤمنون / 51 ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ) البقرة /172-173 .
قال ابن كثير - رحمه الله - : " يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات
ما رزقهم تعالى وأن يشكروه على ذلك إن كانوا عبيده ، والأكل من الحلال سبب لتقبل
الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة كما جاء في
الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيِّبًا وإن الله أمر المؤمنين بما
أمر به المرسلين فقال: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) المؤمنون/ 51 ، وقال (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )البقرة
/172 ، ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ،
ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك ) رواه مسلم
في صحيحه " انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 1 / 481 ) .
وقال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - : " والمراد بهذا : أن الرسل وأممهم مأمورون
بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح ، فما كان الأكل حلالا فالعمل
الصالح مقبول ، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا ؟! وما ذكره بعد
ذلك من الدعاء وأنه كيف يُتقبل مع الحرام : فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع
التغذية بالحرام " انتهى من " جامع العلوم والحِكَم " ( ص 100 ) .
ويُرجى أن تكون توبتك ماحيةً لذنبك فيرتفع عنك مانع استجابة الدعاء بالأكل الحرام ،
وأن يكون ما سبق منك من أفعال لا تأثير له عليه مع التوبة الصادقة ، إن شاء الله .
رابعاً:
العبد مطالب في أعماله بالإخلاص لله وحده ، ومطالب بالحذر من الرياء والعُجب عند
قيامه بالطاعات ، لحديث عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَتْ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
) قَالَتْ عَائِشَةُ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟
قَالَ : ( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ
وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ
أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) . رواه الترمذي ( 3175 )
وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وفي الوقت نفسه على المؤمن الحذر من أن يوسوس له الشيطان بتخويفه من الرياء
ليحجزه عن صنع المعروف وعن التوبة والرجوع ، فلا تلتفتي إلى هذه الوساوس ، وأخلصي
عملك لله وامضِ على توبتك واستقامتك ، والإخلاص باعث على العمل ومحفز له فإذا رأيت
أنك ترجعين إلى الوراء من عملٍ يحبه الله خوفا من الرياء فاعلمي أن ذلك من الشيطان
.
وللاستزادة من هذه المسألة انظري جواب السؤال رقم (
9359 ) .
خامساً:
الصدقة تطيب النفس والمال وتبارك فيه وتنميه ، وهي سبيل عظيم لتكفير الذنوب وستر
العيب وجبر المصاب ونزول الرحمات ، قال تعالى : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) البقرة/
276 ، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ) رواه
البخاري ( 5073 ) ومسلم ( 993 ) ، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ
مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - وَإِنَّ اللَّهَ
يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّى
أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَل ) رواه البخاري ( 1344 )
ومسلم ( 1014 ) .
فَلوَّه : مُهره الصغير .
ومعنى ( عَدل تمرة ) أي : مثلها وشبهها .
وهذا الحديث يفيدنا أن الصدقة ليست بالكم والكثرة ، فعدل تمرة إن خرجت لله تقبلها
ونماها حتى تكون كالجبل .
وختاماً:
عليك بكثرة الدعاء ، والعمل الصالح ، والبحث عن رفقة حسنة ، وقيام الليل ، وقراءة
القرآن وسماع المواعظ ، وطلب العلم ، والدعوة إلى الله ، وغير ذلك مما يبعدك عن
المعصية ، ويشغلك بالطاعة ، فالنفس إن لم تُشغل بالطاعة اشتغلت بالمعصية - والعياذ
بالله - .
والله أعلم
تعليق