الحمد لله.
سُئِلَ ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي رحمه الله :
مَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ نَحْوِ الْمِسْكِ لِكَافِرٍ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَشْتَرِيه لِيُطَيِّبَ بِهِ صَنَمَهُ وَبَيْعِ حَيَوَانٍ لِحَرْبِيٍّ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِلَا ذَبْحٍ لِيَأْكُلَهُ ؟
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ : " يَحْرُمُ الْبَيْعُ فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا شَمَلَهُ قَوْلُهُمْ : كُلُّ مَا يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَعْصِي بِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ لَهُ ، وَتَطْيِيبُ الصَّنَمِ وَقَتْلُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِغَيْرِ ذَبْحٍ مَعْصِيَتَانِ عَظِيمَتَانِ وَلَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِمَا بِبَيْعِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِفِعْلِهِمَا ، وَكَالْعِلْمِ هُنَا غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 270) .
والأصل الشرعي الذي بنى عليه رحمه الله فتواه هو أنه لا يجوز إعانة أحد من المسلمين أو غير المسلمين على معصية الله تعالى ؛ لعموم قوله سبحانه : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة /2 .
والكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها ، فالمحرم علينا محرم عليهم أيضا ، وهم يُسألون عنه يوم القيامة كما يُسأل المسلمون .
وينظر إجابة السؤال رقم (151406) .
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة ، فروى الترمذي (1295) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً : عَاصِرَهَا ، وَمُعْتَصِرَهَا ، وَشَارِبَهَا ، وَحَامِلَهَا ، وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ ، وَسَاقِيَهَا ، وَبَائِعَهَا ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا ، وَالْمُشْتَرِي لَهَا ، وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي " .
وروى مسلم (1598) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ ) .
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة: أيستأجرها الرجل المسلم منهم؟
فقال: " لا يأخذها بشيء، لا يعينهم على ما هم فيه " .
انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 20) .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (9/213) : " ذهب الجمهور إلى أن كل ما يقصد به الحرام , وكل تصرف يفضي إلى معصية فهو محرم , فيمتنع بيع كل شيء عُلم أن المشتري قصد به أمرا لا يجوز " انتهى .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
" أَمَّا مُعَامَلَةُ التَّتَارِ فَيَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي أَمْثَالِهِمْ ، وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ مُعَامَلَةِ أَمْثَالِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، كَمَا يَبْتَاعُ مِنْ مَوَاشِي التُّرْكُمَانِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَخَيْلِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يَبِيعُهُ لِأَمْثَالِهِمْ ، فَأَمَّا إنْ بَاعَهُمْ وَبَاعَ غَيْرَهُمْ مَا يُعِينُهُمْ بِهِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ، كَالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِمَنْ يُقَاتِلُ بِهِ قِتَالًا مُحَرَّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا ) فَقَدْ لَعَنَ الْعَاصِرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا يَصِيرُ عَصِيرًا وَالْعَصِيرُ حَلَالٌ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ خَلًّا وَدِبْسًا وَغَيْرَ ذَلِكَ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 275) .
فلا تجوز مبايعة من يستعين ببيعه أو شرائه على معصية الله ، ويتأكد ذلك في الكافر الحربي.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله :
" بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة ، ومنع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم ، وأما الكافر الحربي ، فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ، ولو بالميرة والمال ونحوه ، والدواب ، والرواحل ، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب ، من أثاثهم وأمتعتهم ، ومنعهم من الانتفاع به " .
انتهى من "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (8/ 340)
والحاصل أن الكافر الذي يذبح على غير اسم الله أو يذبح بغير الطريقة الشرعية ، تصير ذبيحته ميتة نجسة ، وفي هذا قتل للحيوان بغير حق ، وذهاب منفعته سدى ، ومثل هذا محرم لا تجوز الإعانة عليه ، فمتى علمنا أو غلب على الظن أن الكافر يشتري البهيمة ليذبحها بطريقة محرمة ، لم يجز بيعها له ، وأما إن كان يشتريها ليربيها ويبيعها على غيره فلا بأس ببيعها له.
والله أعلم .
تعليق