الحمد لله.
لا يزال الإنسان في عافية من أمره راضيا بما قسمه الله له حتى تهب عليه رياح الغيرة أو تأتيه عواصف السَخَط وعدم الرضا ، فيذهب عنه برد القناعة ، وتظهر له العيوب ويكثر لديه حال التشكي ، وينسى ما كان من صحبة وحسن معاشرة بالمعروف.
فأنت تنازلت كثيرا عن بعض حقوقك وعن المطالبة بأشياء قد تعد من كماليات الحياة تعاونا منك مع زوجك وتضامنا معه لمواجهة تكاليف الحياة ، وكان هذا عن طواعية ورضا نفس ولم يجبرك عليه أحد ، واليوم بعد كل هذه السنوات تريدين أن تستعيدي حقوقك فجأة وتتراكم عليك ذكريات مضت برفق في وقتها إلا أن تذكرها اليوم يستدعي الألم وشيئا من الندم .
لا ننصحك بالاستسلام للأمر الواقع ولا أن تستكملي الجمود في حياتك ، ولكن ننصحك
بتغيير أسلوبك والتدرج في المطالبة باحتياجاتك .
فلو بدأت مثلا في طريقة لتحصيل سلسلة علمية وأنت في بيتك عن طريق السلاسل المسجلة ،
أخلصي نيتك أولا ، وصححي غايتك وأثبتي لنفسك صدق عزيمتك على النهوض بمستواك العلمي،
ثم أثبتي لزوجك أنك حريصة على التعلم ، جديرة به ، واستعيني بالكتابة والتلخيص
وتسجيل الفوائد ، اصنعي شيئا جديدا لم تألفيه من قبل ، ثم أقبلي عليه رويدا رويدا
بطلب بسيط لا يكلفه مالا ولو أن يصحبك لخطبة جمعة بمسجد ، وإن استجاب لك فاشكريه
وأثني عليه وأشعريه أنك ستقدرين له اهتمامه ورعايته ، وهكذا تستطيعين أن تستعيدي
لنفسك أشياء كنت قد تنازلت عنها من قبل .
أما فيما يخص إنفاق زوجك على أهله وتلبية طلباتهم المادية ، فلابد أن تنظري للأمر
من جهات أخرى ، فمثلا لو قدر لك أن تعيشي وسط أهله أو قريبا منهم في نفس البلد ربما
لوجدت من المشاكل ما يفوق الأمر المادي ولتمنيت وقتها أن تسافري عائدة ولو زاد في
النفقة عليهم .
أمر آخر ؛ لو علمت أن هذه الأموال ينفقها قد تعود عليك بالنفع والبركة في صحتك
وأولادك وبيتك وزوجك ، لربما كنت أهدأ نفسا ، هذا بالإضافة إلى أن إنفاقه لهذه
الأموال على أهله وذوي رحمه يعد صلة وقربى إلى الله إذا ما احتسب ذلك ، وأنت عندما
تعينيه على ذلك فأنت شريكته في الأجر إن شاء الله ، بل ربما يكون هذا من أسباب سعة
الرزق لك ولزوجك وأولادك.
هذه الحقيقة التي ينبغي أن تعلميها جيدا أن الإنسان كلما أنفق ماله في مرضات الله
فإن الله تعالى يخلف عليه ، ويوسع عليه رزقه ، قال الله تعالى : (وَمَا أَنفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ/39 .
وروى البخاري (1442) ومسلم (1010) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ
يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ
مُمْسِكًا تَلَفًا) .
قال النووي رحمه الله : " قال العلماء: هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق
وعلى العيال والضيفان ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى إسرافاً ، والإمساك المذموم هو
الإمساك عن هذا" انتهى من " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج " (7/95) .
بل إن اهتمام زوجك بأهله والإحسان إليهم ، والتوفير من ماله لإعطائهم ، يدل على
برّه وكرمه وحسن خلقه ، فإن صلة الرحم من آكد الطاعات ، والإحسان إلى الأقارب صدقة
وصلة ، كما روى النسائي (2582) والترمذي (658) وابن ماجه (1844) عَنْ سَلْمَانَ
بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذِي
الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ) وصححه الألباني في " صحيح النسائي" .
فلا يلام زوجك على إكرامه لأهله وإحسانه إليهم ما دام لا يقصر في نفقته الواجبة
عليك ، ولا يعد بذلك ظالما لك ولا ظالما لنفسه .
وكونهم ليسوا فقراء لا يعني خطأه فيما يصنع ، فإن صلة الرحم وبذل المال للأقارب لا
يختص بالفقراء ، بل إعطاء المال لفقيرهم أو غنيهم فيه ثواب عظيم ، وهو ثواب صلة
الرحم .
لا يعني ذلك أنه لا ينبغي أن يكون متوازنا في نفقاته ، موفيا لأهله وولده وزوجه
حقوقهم ، معطيا لكل ذي حق حقه ؛ لكن ذلك ينبغي أن يكون بالتفاهم ، والإقناع ، وليس
بالتناكد ، والرغبة في الفراق والانقطاع .
إنك مهما كان بك من قوة وعزيمة وحرص ، سوف تقابلين مصاعب في حياتك من غير زوج ، وقد
تشقين بأولادك بعده ، كما هو الحاصل عادة ؛ فأي حال لأولاد بلا أب ، وزوجة بلا زوج
؟!
وأية حال لأولاد مع زوج أم ، لو أنك تزوجت غيره ، أو مع امرأة أب ، لو أنك تركت له
أولاده ؟!
إن خيار الانفصال : هو خيار مأساوي ، بكل ما تعنيه الكلمة !!
يا أمة الله ؛ ليس هناك بيت في الدنيا من غير متاعب ومصاعب ومشكلات ، وليست هناك
عيشة وادعة حالمة في كل حالاتها ، وليس هناك زوج ولا شخص من غير عيوب أو أخطاء ؛
فهكذا الدنيا طبعت على كدر ، ومن لم يجر مع القدر ، لم يهنأ بعيش ؛ فاجتهدي في
إصلاح ما يمكنك ، واصبري على ما تعجزين عن دفعه ؛ فلعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا
، وأن يصلح لك شأنك وشأن زوجك .
والله أعلم .
تعليق