الحمد لله.
أولاً:
ما يعْلق بالملابس الداخلية من آثار النجاسة ورائحتها بسبب العرق هو شيء يسير جداً في العادة ، ومما يعفى عنه ، كما هو مذهب الحنفية واختيار كثير من المحققين .
قال الكاساني : " لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، فَإِنَّ الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَةِ ، ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ". انتهى من "بدائع الصنائع" (1/ 79) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ ، حَتَّى بَعْرِ فَأْرَةٍ ، وَنَحْوِهَا فِي الْأَطْعِمَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَلَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَةُ طِينِ الشَّارِعِ عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ ". انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/ 313).
وقال الشيخ ابن عثيمين : " والصَّحيح : ما ذهب إِليه أبو حنيفة ، وشيخ الإِسلام ... ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه : يسير سَلَسِ البول لمن ابتُلي به ، وتَحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته ". انتهى من "الشرح الممتع" (1/ 447) .
ثانياً:
مما يزيد الأمر تخفيفاً فيما يتعلق بالأمر الذي ذكرت : أن الشريعة رخصت للإنسان بالاستنجاء بالحجارة ، ومن المعلوم أن الحجارة لا تطهر المحلَّ بشكل كامل ، بل لا بد من بقاء شيء يسير من آثار النجاسة ، وهو مما يعفى عنه .
قال ابن قدامة : " وَقَدْ عُفِيَ عَنْ النَّجَاسَاتِ الْمُغَلَّظَةِ لِأَجْلِ مَحَلِّهَا ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ؛ أَحَدُهَا : مَحَلُّ الِاسْتِنْجَاءِ ، فَعُفِيَ فِيهِ عَنْ أَثَرِ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ" ، انتهى من "المغني" (2/ 486) .
قال القرافي : " إِذَا عَرِقَ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ ... يُعْفَى عَنْهُ ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى ...؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ وَيَعْرَقُونَ ". انتهى من "الذخيرة" (1/211) .
وجاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي " (1/ 148) : " فَلَوْ عَرِقَ الْمَحَلُّ ، وَأَصَابَ الثَّوْبَ ، فَلَا يَضُرُّ ".
وقال ابن قدامة : " وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الِاسْتِجْمَارُ ، ... وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ الْعَرَقِ ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَوَقِّي ذَلِكَ ، وَلَا الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ". انتهى من "المغني" (1/119) .
وقال ابن القيم : " فإن الصحابة لم يكن أكثرهم يستنجي بالماء ، وإنما كانوا يستجمرون صيفاً وشتاءً ، والعادةُ جارية بالعرق في الإزار ، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسله وهو يعلم موضعه ، ولا كانوا هم يفعلونه ، مع أنهم خير القرون وأتقاهم لله".
انتهى من "بدائع الفوائد" (4/1490) .
وقد سئل شهاب الدين الرملي الشافعي : عَمَّنْ اسْتَجْمَرَ ثُمَّ أَصَابَ رَأْسُ ذَكَرِهِ مَوْضِعًا مُبْتَلًّا مِنْ بَدَنِهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِنْجَاءُ وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ ؟
فَأَجَابَ:" لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِنْجَاءُ ، وَلَا غَسْلُ مَا أَصَابَ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ ؛ لِقَوْلِهِمْ : يُعْفَى عَنْ أَثَرِ اسْتِجْمَارِهِ وَلَوْ عَرِقَ مَحَلُّهُ وَتَلَوَّثَ بِالْأَثَرِ غَيْرُهُ ".
انتهى من "فتاوى الرملي" (1/ 33) .
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي :
" إذا تقرر أنه يعفى عن يسير النجاسة في الدبر أو القبل إذا استجمر الإنسان... فإذا عرق الإنسان أو جالت يده بالعرق ، فلابد وأن تصيب الموضع ، فإذا عرق المكان الذي يلي الموضع وسرى هذا العرق إلى الثوب أو إلى السروال الذي يلي الموضع ، فهذا معفو عنه ؛ لأننا لو حكمنا بنجاسته لدخل الناس في حرج لا يعلمه إلا الله عز وجل".
انتهى من "شرح زاد المستقنع" (23/ 4، بترقيم الشاملة آليا) .
وينظر : "المغني" ، لابن قدامة (1/ 219) .
والحاصل : أنه لا يضرك هذا الأثر اليسير الناشئ من التعرق ، وصلاتك صحيحة ، فقط تتحقق من إنقاء المحل عند الاستنجاء ، ثم لا تشغل نفسك بهذا الأمر أكثر مما ينبغي ، بعد ذلك ، حتى لا تقع في الوسواس .
والله أعلم .
تعليق