الحمد لله.
أختنا الفاضلة
نعلم أنه لا أثقل من كلام الحكمة والتعقل والترزن على من لا يستجيب إلا لنداء العاطفة ، ولا يصيخ إلا لصوت المشاعر ، ولا يطربه سوى أنين وخفقان القلب ..
ونعلم ـ أيضا ـ أنك قد تلوميننا إن نحن خضنا من البدء في زجرك ونهيك واسترجاع خطوة البداية الخاطئة ، وقد تتهميننا بأننا لا نتفهمك ، ولا نقدر معاناتك .
لكن ، فقط ، نرجو منك أن تقدري صعوبة الموقف الذي نقفه نحن ؛ إننا محكمون بأصل شرعي عام ؛ أن : ( الدين النصيحة ) ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأن : ( المستشار مؤتمن ) ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، أيضا .
فدعينا الآن ، نعفيك هنا من تقليب صفحة الماضي ، فما كان قد كان ، وربما لا نحتاج أن نتوقف طويلا عند تقرير أصل عام في سلوك العبد ، وسيرته ، وحياته : أن الأنس الحقيقي إنما هو بالله جل جلاله ، البر الرحيم ، وألا يغفل العبد عن معاني مراقبته ؛ مراقبة بره وجوده وإحسان ، ومراقبة علمه وحكمته وخبرته ، ومراقبة قدرته وقهره وسلطانه ؛ إننا نظن أن ذلك كله منك على بال .
ولنبدأ من حيث تكلمت أنت عن نفسك ؛ من حيث ذكرت ما أنعم الله به عليك ، من الدين ، والخلق ، من حيث ذكرت مراقبتك لربك جل جلاله ، وحرصك على مرضاته ، وخوفك من عصيانه ، والوقوع فيما يغضبه ، سبحانه .
فنقول لك ـ يا أمة الله ـ :
إن العبد ـ كما تعلمين جيدا ـ لا يملك من أمر نفسه شيئا ؛ لا خلقا ، ولا تصريفا ، ولا أمرا وتدبيرا ؛ فالعبد لم يخلق نفسه ، ولم يُصرِّفها ، وليس هو مُخولا بأمرها ونهيها ، فيما لله فيه طاعة وشرع.
يا أمة الله ؛
هناك أصلان يحكمان حركة العبد في حياته ، ونظرته لواقع أمره ، واختياره ما يختاره ، قبولا ، أو ردا :
الأول : إيمانه بقدر الله السابق ؛ وهو ركن ركين من إيمان العبد : أن تؤمن بالقدر خيره وشره ، حلوه ، ومره ؛ قال الله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر/49، وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ؛ ويستحضر ذلك في حياته ، وحركاته وسكناته ، ويسلم له : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن/11
قال ابن كثير رحمه الله : "أَيْ: وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ، هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وعَوَّضه عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدى فِي قَلْبِهِ، وَيَقِينًا صَادِقًا، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ" انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/137) .
الثاني : أن العبد مأمور بأمر ربه ، مصرف بشرعه : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف/54، وقال تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65
يا أمة الله ؛
إننا الآن أمام مشروع : زواج " ، مع وقف التنفيذ" ؛ لا ، بل واستحالة إتمامه في الظروف المشار إليها ، ثم تعليق إمكان ذلك في المستقبل ، بأجل غير محدد ، ولا معلوم !!
استخارة ، واستشارة، وبعدها مباشرة ، في الوقت الذي كان مجيء الخاطب مقررا ليتم الزواج ، يسبق القدر ، ليكتشف الخاطب أنه مريض مرضا عضالا ..
ألا يشير لك هذا التضافر في الأحداث إلى شيء ؟
ألا يمكن أن يكون مرض هذا الخاطب : علامة على أن زواجك منه لا يصلح لك ، وليس لك فيه خير؟ ألا يمكن أن يكون ذلك ثمرة من ثمرات الاستخارة بالله والاستعانة به وصدق اللجوء إليه ، ونتيجة لمقتضى الدعاء (..إن كان هذا الأمر شرا لي ..)؟
يا أمة الله ؛
ألا يستحق هذا الوضع المعقد ، إلى تأمل أكثر عقلا ؟!
التأمل في حال مشروع "زواج مع إيقاف التنفيذ" ، إيقاف لأجل غير مسمى ، لا يعلم منتهاه إلا الله وحده !!
إن المهمة الصعبة لا بد لها من إعداد مكافئ ، وزاد مناسب ، مناسب لطول الطريق ، خوف الانقطاع ..
إننا إذا كنا سنفكر من منظور "الزواج الشرعي" ، على ما نفهمه من شرع الله ، فليس من اليسير القبول بزواج كهذا ، ليس من المرجح أن تبدأ أولى خطواته العملية في وقت قريب ، أو حتى في وقت بعيد ، نعلم نحن أمده ؛ لكن : مجهول !!
ثم نحن نتحدث عن نكاح ، ليس من المرجح ، مع مثل هذا الداء العضال : أن يؤدي مقاصد النكاح التي شرع من أجلها ، وأظهرها الذرية والولد ، مع تما القدرة على : العفاف ، والإعفاف!!
إننا هنا أمام خلل وقع بينكما ، ونحن بعد لم نصنع شيئا ؛ فكيف بما بعد ذلك ؟!
يتمثل هذا الخلل في اتفاقكما على كتمان المرض عن أهلك !!
إن الله عز وجل شرع الولي في النكاح ، ومنع المرأة من أن تستبد بنكاح نفسها ؛ فلا نكاح إلا بولي .. فإذا كان الولي لم يعلم بمثل ذلك الأمر الخطير المؤثر ، فما قيمة الولي إذا ؟ إنه يتخذ قراره بالقبول أو الرفض ، بناء على معطيات ظاهرة أمامه ؛ فإذا كان مثل هذا المعطَى المؤثر غائبا عنه ، أو مغيبا عنه ـ بتعبير أدق ـ بصورة متعمدة ؛ فكيف يمكن الاطمئنان إلى قراره ؟ بل كيف يمكنه هو أن يتخذ القرار الصحيح ، وبمقتضى الأمانة التي جعلها الله في عنقه ؟!
هل جعلناه صورة ، دمية نلعب بها ، ونحن الذين نقرر ، أو لا نقرر ؛ فلأي شيء شرع الله الولي في النكاح إذا ؟
إن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ . رواه مسلم .
فانظري يا أمة الله ، كيف عرضتْ صورة الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف نظر إلى ما فيه مصلحتها ، وما فيه عون لها على تحقيق مقاصد النكاح .
إننا لو افترضنا أن الشرع لم يشترط موافقة الولي ، وتوليه هو أمر النكاح ، لكان واجبا عليك أن تُعلمي أهلك بكل ذلك ؛ فهم شركاؤك في همك وفرحك ، وهم الكنف الذي تأوين إليه في كل مُلمة ؛ فكيف تغررين بهم في مثل ذلك ؟!
لقد ذكر بعض أهل العلم أن من مقاصد اشتراط الولي في النكاح : أن المرأة غالبا ما تنساق وراء عاطفتها ، فكان لا بد لها من صوت العقل ، يسددها ، ويقومها ..
لسنا هنا ـ إذا ـ في مقام : نستحب لك ، أو نفضل ، أو ... ، بل إننا نقول : إنه ليس من حقك أن تكتمي ذلك عن أهلك ؛ وليس من حقه هو أن يمنع هذه المعلومة المهمة عن أهلك ، وأن يتواطأ معك على ذلك ؛ حتى لو قدر شفاؤه فيما بعد ذلك ، لكن ما دام أن هذا الأمر قد حصل الآن ، فلا بد أن يكون وليك على بينة من أمر الخاطب ، لأنه هو الذي يملك أن يقبل أو يرفض ؛ صحيح أن وليك الشرعي لا يملك أن يجبرك على النكاح بمن لا ترغبين ، لكنه أيضا ـ وفي حكم الشرع ـ يملك أن يمنعك من الزواج بمن لا يراه مناسبا لك ، ولا يرى في زواجك منه حظك ، ومصلحتك ، وتأملي حديث فاطمة السابق ، بل تأملي مقصد الشرع في تشريع الولي في النكاح ، وإلا فما فائدته إذا .
وليس من حقه أن يمنعك من إخبار أهلك وغشهم ..
نعم ، إنه مبتلى ، نسأل الله أن يعافيه ، ويشفيه شفاء لا يغادر سقما ؛ لكن ليس من حق المبتلى أن ينزل بلاءه بالناس ، ولا أن يأخذ ما ليس من حقه ؛ فأعط كل ذي حق حقه.
إن مكارم الأخلاق : أن يؤثر المرء على نفسه ، ولو كان محتاجا ؛ فكيف إذاً يسعى إلى الاستئثار بغيره ، وتحميله مؤنته ، من غير أن يكون على استعداد تام لها ؟!
أختنا الفاضلة ،
نفترض أن وليك قد عرف بذلك ، وقبل هو ، وقبلت أنت ؛ فهنا يأتي الكلام : هل تستمرين ؟!!
فاسألي نفسك حينئذ : هل هي عاطفة عابرة ، أو تصبرين على طول الطريق ؟!
أما إذا فكرت بحكمة ، وروية ، فأنت أبصر بأمرك ، وما فيه مصلحتك ..
لكنك الآن ، امرأة أجنبية عنه ، حتى ولو كان خاطبك ، ليس له منك ، إلا ما للرجل من امرأة أجنبية ، فليس لكما أن تتوسعا في الكلام من غير حاجة ، ولا في التعاملات أيضا ، فيما لا يحتاج إليه ..
لك مواساته ، حينما يحتاج ، ولا بأس إن حصل كلام ، أو اتصال ، إذا كان لحاجة ، وأذن لك وليك ، ولم يكن فيه خضوع بقول ، أو ائتمار على شيء ، أو مظنة للفتنة ..
ليس لأحد أن يفرض عليك عدم انتظار الفرج من الله بشفائه ، ولا ألا تثقي في منة الله سبحانه عليكما بأن يعافيه ، ويجمع بينكما فيما يحبه ويرضاه ، ولا أحد يستطيع أن يجبرك على التنازل عن اختيارك ما دمت ترين أنك متمسكة به ، أو تظنين أنه لا يمكنك العيش بدونه ؛ لكن كل ما نريد أن نقوله هنا : أن تراقبي الله في علاقتك به ، وتفكري بحكمة وروية ، وألا تكون شفقتك وحنانك هي الدافع الوحيد ، أو المتحكم الرئيس في قرارك هذا ؛ وألا تستبدي برأي أو قرار ، دون أهلك ، ووليك الشرعي ؛ يقف معك على واقع الحال ، ثم تقررون جميعا ما ترونه مناسبا .
فإذا ما بدا لكم أنه من الخير لكم أن تقف العلاقة عند هذا الحد ، ويمضي كل منكما في طريقه ، وما قدره الله له ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ، فنرى ألا يكون ذلك مفاجئا ، صادما ، بل نرى أن يكون الدور في ذلك لوليك ، يتولى هو معالجة الأمر بحكمة وروية ، وبتدريج مناسب لواقع الحال ، ورفق بالمريض ؛ ألا يصدم بذلك ، ليقلل الأذى والضرر ، قدر الإمكان.
وأيا ما كان اختيارك ، أو قرارك ؛ فليس أقل من أن تفكري فيما أشرنا عليك به ، بحكمة وروية ، و أناة ، وأن تستعيني بالله ، وتسأليه أن يلهمك رشدك ، ويقيك شر نفسك .
يسر الله لك أمرك ، وفرج كربك ، وكشف همك وغمك ، وصرف عنك الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
والله أعلم .
تعليق