الحمد لله.
أولاً :
روى الإمام أحمد (12482) ، وابن حبان (7159) ، والحاكم (2194) عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ : إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً ، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا ، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ ) .
فَأَبَى .
فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي .
فَفَعَلَ .
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ ) قَالَهَا مِرَارًا.
فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ .
فَقَالَتْ : رَبِحَ الْبَيْعُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا " .
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم " ، وكذا صححه الألباني في " الصحيحة "(2964) على شرط مسلم .
وروى مسلم (965) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : " صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ : ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ فَعَقَلَهُ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ ، وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ ، نَسْعَى خَلْفَهُ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ - أَوْ مُدَلًّى - فِي الْجَنَّةِ لِابْنِ الدَّحْدَاحِ ) أَوْ قَالَ شُعْبَةُ - راوي الحديث - : ( لِأَبِي الدَّحْدَاحِ ) .
قال النووي رحمه الله : " الْعِذْقُ هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلَةِ . وَأَمَّا الْعَذْقُ بِفَتْحِهَا فَهُوَ النَّخْلَةُ بِكَمَالِهَا ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا " انتهى .
والرداح : الثقيل .
وروى الطبراني في "الكبير" (764) بسند ضعيف عَنْ ابن مَسْعُودٍ ، قَالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) ، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ ؟
قَالَ: ( نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ ) .
قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ .
فَقَالَ : إِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي ، وَفِي حَائِطِي سِتَّمِائَةٍ نَخْلَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَائِطِ فَنَادَى يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ ، وَهِيَ فِي الْحَائِطِ .
فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ .
فَقَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي " .
ثانياً :
ورد اسم الرجل الذي قال له النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ ) فَأَبَى ، عند البيهقي في "سننه"
(6/ 260) .
فروى عن سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ : " أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ عَتَبَ فِيهِ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ : أَنَّهُ خَاصَمَ يَتِيمًا لَهُ فِي عذْقِ نَخْلَةٍ ، فَقَضَى رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ بِالْعذْقِ .
فَضَجَّ الْيَتِيمُ وَاشْتَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي
لُبَابَةَ : ( هَبْ لِي هَذَا الْعذْقَ يَا أَبَا لُبَابَةَ ؛ لِكَيْ نَرُدَّهُ
إِلَى الْيَتِيمِ ) .
فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يَهَبَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَبَا
لُبَابَةَ ، أَعْطِهِ هَذَا الْيَتِيمَ وَلَكَ مِثْلُهُ فِي الْجَنَّةِ ) .
فَأَبَى أَبُو لُبَابَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنِ ابْتَعْتُ
هَذَا الْعَذْقَ فَأَعْطَيْتُ الْيَتِيمَ ؛ أَلِي مِثْلُهُ فِي الْجَنَّةِ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَعَمْ ) .
فَانْطَلَقَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَهُوَ ابْنُ الدَّحْدَاحَةِ ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا
لُبَابَةَ فَقَالَ : يَا أَبَا لُبَابَةَ ، أَبْتَاعُ مِنْكَ هَذَا الْعذْقَ
بِحَدِيقَتِي ، وَكَانَتْ لَهُ حَدِيقَةُ نَخْلٍ .
فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ : نَعَمْ ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ بِحَدِيقَةٍ .
فَلَمْ يَلْبَثِ ابْنُ الدَّحْدَاحَةِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ كُفَّارُ
قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ شَهِيدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رُبَّ عذْقٍ مُذَلَّلٍ لِابْنِ الدَّحْدَاحَةِ فِي
الْجَنَّةِ ) .
ففي هذه الرواية أن هذا
الرجل هو أبو لبابة ، واسمه : بشير بن عبد المنذر الأنصاري ، وقيل اسمه رفاعة ،
وقيل غير ذلك ، والمشهور الأول .
ينظر : "الإصابة" (7/ 289-290) .
وهذا الإسناد ضعيف لإرساله ، ولكنه من مراسيل سعيد بن المسيب ، ومراسيل ابن المسيب
قوية عند بعض أهل العلم ، قال الذهبي : " مَرَاسِيْلُ سَعِيْدٍ مُحْتَجٌّ بِهَا "
انتهى من "سير أعلام النبلاء" (5/ 125) .
وقال الحافظ : " اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل " .
انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 241) .
فهذا أصح ما ورد في تسمية هذا الرجل ، وهو أبو لبابة رضي الله عنه ، وهو صحابي
مشهور .
قال النووي رحمه الله : " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمْ مِنْ
عِذْق مُعَلَّق فِي الْجَنَّة لِأَبِي الدَّحْدَاح ) ، قَالُوا : سَبَبه أَنَّ
يَتِيمًا خَاصَمَ أَبَا لُبَابَة فِي نَخْلَة فَبَكَى الْغُلَام ; فَقَالَ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ : " أَعْطِهِ إِيَّاهَا وَلَك
بِهَا عِذْق فِي الْجَنَّة " , فَقَالَ : لَا , فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو
الدَّحْدَاح , فَاشْتَرَاهَا مِنْ أَبِي لُبَابَة بِحَدِيقَةٍ لَهُ , ثُمَّ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلِيَ بِهَا عِذْقٌ إِنْ
أَعْطَيْتهَا الْيَتِيم ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَمْ عِذْق مُعَلَّق فِي الْجَنَّة لِأَبِي الدَّحْدَاح ) "
انتهى .
وليس يلزم من مجرد هذا الموقف : أن يكون صاحبه منافقاً ولا يهودياً ، فإن النخلة
حقه ، وإنما شق على صاحبه خروجها عن ملكه ، وربما تضرر بذلك ، ولم يُلزمه النبي صلى
الله عليه وسلم بإعطائها لجاره ، وإنما ندبه إلى ذلك ، ووعده عليها أجراً خاصاً في
الجنة ، ولم تخرج بذلك أيضاً إلى حد الوجوب عليه ، بل إعطاؤها له كان مندوباً في
حقه ، وعملاً فاضلاً ، وليس كل من ترك المندوب ، أو العمل الفاضل : مذموماً ، ولا
آثماً ؛ فضلاً عن أن يكون يهودياً ، أو منافقاً .
ويلاحظ أنه في الرواية المسندة ، كان جاره الذي حصل الخصام معه : رجلاً ، ولم يكن
يتيماً ، كما في الرواية المرسلة .
بل إذا قدر أن كان إثماً
وذنباً ، فليس كل من وقع في ذنب ، لزم أن يؤاخذه الله عليه ؛ فإن موانع لحوق الوعيد
بأصحاب المعاصي والذنوب كثيرة ؛ كأن يتوب من ذلك ، فيتوب الله عليه ، أو تكون له
حسنة أخرى ، هي أكبر منها تمحوها ، أو يبتلى بما يكفر عنه خطاياه ، أو يشفع فيه بعض
الشافعين ، أو تدركه رحمة رب العالمين .
وقد قال الله عز وجل : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا
صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة/ 102 .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (201858)
.
والله تعالى أعلم .
تعليق