الحمد لله.
أولاً :
من مقاصد الشريعة في تشريع الحدود : تأديب العاصي وزجره عن معصيته ، حتى لا يعود إليها مرة أخرى ، وليس من مقاصدها : إهلاكه ، ولذلك قال الفقهاء بتأخير إقامة الحد عن الإنسان في الحال التي تكون إقامتها مظنة لهلاكه ، أو هلاك معصوم غيره .
قال ابن القيم -رحمه الله- في " إعلام الموقعين "(3/ 14): "وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعَارِضٍ : أَمْرٌ وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ ، كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ : الْحَامِلِ ، وَالْمُرْضِعِ ، وَعَنْ وَقْتِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَالْمَرَضِ " انتهى .
وقد ثبتت السنة بتأخير إقامة
الحد على الحامل ، حتى تضع ما في بطنها .
روى مسلم في صحيحه (1695) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ :
" جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي ، فَقَالَ : ( وَيْحَكِ ، ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي
اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ ) ، فَقَالَتْ : أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي
كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ ؟ ، ( قَالَ وَمَا ذَاكِ ؟ ) ، قَالَتْ :
إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ الزِّنَى . فَقَالَ لَهَا : حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ
.
قَالَ : فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ؟ قَالَ فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ وَضَعَتْ
الْغَامِدِيَّةُ ، فَقَالَ : ( إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا
لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ) .
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ
، قَالَ فَرَجَمَهَا ".
قال النووي رحمه الله : " فِيهِ أَنَّهُ لَا تُرْجَمُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ ،
سَوَاءٌ كَانَ حَمْلُهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ
لِئَلَّا يُقْتَلَ جَنِينُهَا ، وَكَذَا لَوْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ وَهِيَ
حَامِلٌ لَمْ تُجْلَدْ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى تَضَعَ " انتهى من " شرح صحيح مسلم "
(11/344) .
وقال ابن قدامة : " وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ ، سَوَاءٌ
كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَوْ غَيْرِهِ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ...
وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا إتْلَافًا
لَمَعْصُومٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا أَوْ
غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ
وَالْقَطْعِ ، وَرُبَّمَا سَرَى إلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ ،
فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ ".
انتهى من "المغني" (12/327) .
وقال الكاساني مبيناً شروط إقامة الحد : " وَمِنْهَا : أَنْ لَا يَكُونَ فِي
إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا
لَا مُهْلِكًا ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ
الشَّدِيدِ ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ ، وَلَا
يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ
الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ ؛ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى
النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ .
وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ ؛ لِأَنَّ
فِيهِ خَوْفَ هَلَاكِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ ".
انتهى من " بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع " (7/ 59) .
ثانياً :
إذا ولدت الحامل ، فلا يقام عليها حد الزنا حتى تنتهي من نفاسها .
لحديث علي بن أبي طالب : " إِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَنَتْ ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا ، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ
بِنِفَاسٍ ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ( أَحْسَنْتَ ، اتْرُكْهَا
حَتَّى تَمَاثَلَ ) " [ أي تقارب الشفاء ] ، رواه مسلم في صحيحه (1705).
قال النووي : " فِيهِ أَنَّ النُّفَسَاءَ وَالْمَرِيضَةَ وَنَحْوَهُمَا يُؤَخَّرُ
جَلْدُهُمَا إِلَى الْبُرْءِ ".
انتهى من " شرح صحيح مسلم " (11/214) .
قال ابن قدامة : " وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْوَلَدَ ،
وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ ، وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا ، أُقِيمَ
عَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا ، أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ
تَلَفُهَا ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ " انتهى من " المغني " (12/ 329) .
وجاء في " المدونة " للمالكية (4/ 514): " قُلْتُ : أَرَأَيْتَ الْبِكْرَ الْحَامِلَ
مِنْ الزِّنَا ، أَتُجْلَدُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزِّنَا ؟ أَمْ تُؤَخَّرُ حَتَّى
تَضَعَ حَمْلَهَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: تُؤَخَّرُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا عِنْدَ مَالِكٍ.
قُلْتُ : فَإِذَا وَضَعَتْ ، أَتَضْرِبُهَا أَمْ حَتَّى يَجِفَّ دَمُهَا
وَتَتَعَافى مِنْ نِفَاسِهَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟
قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُك أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمَرِيضِ إذَا خِيفَ عَلَيْهِ
: إنَّهُ لَا يُعَجَّلُ عَلَيْهِ وَيُؤَخَّرُ وَيُسْجَنُ ، فأَرَى النِّفَاسَ
مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ ، وَأَرَى أَنْ لَا يُعَجَّلَ عَلَيْهَا ". انتهى .
ثالثاً :
إذا انتهت المرأة الزانية من نفاسها وتعافت من ضعفها يقام عليها حد الجلد ، ولا
يؤخر حتى تنتهي من فطام رضيعها ؛ لأن الجلد لا يحول بينها وبين رضاع صغيرها.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (32/ 181) : " وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ، فَلاَ
أَثَرَ لِلْفِطَامِ فِيهِ ".
وهذا بخلاف حد الرجم ، فلا ترجم الزانية حتى ترضع صغيرها وتفطمه ، إن لم يوجد من
يقوم برضاعته .
قال ابن قدامة : " فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ
اللِّبَأَ [وهو اللبن أول النتاج لاحتياج الولد إليه غالبا] ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ
لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ، أَوْ تَكَفَّلَ
أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ " .
انتهى من "المغني" (12/329) .
رابعاً :
ومن العقوبات الشرعية للزاني البكر : تغريبه وإبعاده عن بلده مسافة لا تقل عن مسافة
القصر ، وهذا الحكم يشمل الرجل والمرأة على أرجح الأقوال .
والظاهر لا يؤخر هذا الحكم عن المرأة لكونها حامل ؛ لأن التغريب لا يضر حملها شيئاً
.
قال الشبراملسي في " حاشيته على نهاية المحتاج " (7/ 303) : " تُغَرَّبُ ،
وَيُؤَخَّرُ الْجَلْدُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ التَّغْرِيبِ
" انتهى .
ويحتمل أن يقال بتأخير التغريب أيضا ، كما يؤخر الرجم ؛ لما ذكره ابن حزم ، رحمه
الله ، في "المحلى بالآثار" (12/ 101) " وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : " أَتَى رَجُلٌ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أُخْتَهُ أَحْدَثَتْ - وَهِيَ فِي سِتْرِهَا
وَأَنَّهَا حَامِلٌ - فَقَالَ عُمَرُ: أَمْهِلْهَا حَتَّى إذَا وَضَعَتْ
وَاسْتَقَلَّتْ فَآذَنِّي بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَلَدَهَا مِائَةً وَغَرَّبَهَا
إلَى الْبَصْرَةِ عَامًا ".
وظاهر هذا الأثر أن التغريب كان بعد وضع الحمل ، لكن لم نقف على هذا الأثر إلا في
المحلى ، ولم يذكر ابن حزم سنده فيه عن عروة .
واشترط العلماء لتغريب
المرأة : أن يكون معها من يحفظها من محرم أو زوج ، فلو لم يوجد المحرم لم يجز
تغريبها ، وينظر: جواب السؤال : (198743)
.
ومن المهم هنا التنبيه على أن الحدود لا يقيمها إلا السلطان الشرعي ، وليس من حق
الأفراد إقامة الحدود على أنفسهم أو غيرهم .
قال فخر الدين الرازي في " تفسيره "(11/ 356) : " وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ ، بَلْ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ
الْجُنَاةِ إِلَّا لِلْإِمَامِ " انتهى ، وينظر جواب السؤال : (12461)
.
فإذا لم يكن هناك إمام يقيم الحد ، فليجتهد العبد في أن يطهر نفسه بالتوبة النصوح ؛ إذ فاته التطهير بإقامة الحد الشرعي عليه ، وليجتهد ـ بقية عمره ـ في عمل صالح ، لعل الله يذهب عنه بلاء ذنبه بذلك ، إن الحسنات : يذهبن السيئات !!
هذا ، مع أن من وقع في ذنب
موجبٍ للحد ، فالمستحب له أن يستر نفسه ويتوب فيما بينه وبين الله ، وينظر جواب
السؤال : (27113) ، (47834)
.
والله أعلم .
تعليق