الحمد لله.
جميل أن يرزق المسلم قلبا رقيقا وجلا من ربه عز وجل ، يتحسس زلـَله وتقصيره في جنب الله ، ويتأسى على ما فرط منه في سابق أيامه وزمانه ، فذلك علامة قبول ، وأمارة فضل من الله عز وجل ، فقد أثنى الله سبحانه على من هذا حاله فقال عز وجل : ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) الحج/35 .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ) "رواه الترمذي (2406) وحسنه ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
ولكن يمكن أن تنقلب هذه النعمة إلى نقمة أو خطيئة أخرى ، إذا لم يراع العبد أيضا ما أمر الله عز وجل به ، في حال الخوف وحال الرجاء ، وحال الطاعة والمعصية أيضا ، فإذا تمكن اليأس والقنوط من القلب بسبب شدة الخوف ، صار ذلك ذنبا جديدا ، وإذا وقع العبد في سوء الظن بالله، أو بدأ يتقاعس عن العبادة والدعاء وانقطع رجاؤه من الله عز وجل ، فليتأكد حينئذ أن الشيطان تمكن منه ، ودخل إليه من باب جديد ، والعاصم من جميع ذلك هو الاستقامة على الحال التي أثنى عليها الله في القرآن الكريم ، وهي حال الخوف من الله ، من غير أن يؤول المقام إلى حد الوسواس أو الإحباط أو الاكتئاب عن كل أمل في حياة سعيدة في الدنيا والآخرة .
يقول الله سبحانه : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) الزمر/23.
هذا فضلا عن أن سعة رحمة الله ولطفه بعباده اقتضت أن لا يحاسب ابن آدم حتى يبلغ سن الاحتلام ، وهو سن الخامسة عشرة ، أو هو السن الذي تظهر عليه علامات البلوغ من نبوت شعر العانة ، أو إنزال المني ، أو الحيض للنساء ، فكل ما يقع قبل هذا السن لا حساب عليه ولا عذاب ، وإنما يؤاخذ به بين الناس تربية وتأديبا ، قال صلى الله عليه وسلم : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ ) رواه أبوداود (رقم/4403) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
يقول الإمام ابن المنذر رحمه الله :
" أجمع أهل العلم على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل " .
انتهى من " الإشراف على مذاهب العلماء " (7/227) .
فإذا كان ما وقع منك من ذنب إنما وقع قبل البلوغ فلا موجب لكل ما سبق في سؤالك من حزن وأسى وهم وغم ، وأما إذا وقع بعد البلوغ فالواجب عليك حفظ الفارق بين الخوف المحمود من الله سبحانه وتعالى ، وبين الخوف المذموم الذي يؤدي إلى اليأس والقنوط أو ترك الدعاء والعبادة ،
ثم اعلمي أنك إن لم تلتزمي بما بيناه من هذا الفارق المهم فأنت تعيدين الإثم من جديد ، وتقعين فيما هو أعظم وأشنع من إثمك القديم ؛ لأن هذا الإثم يتعلق بظنك بالله سبحانه ، واعتقادك في صفاته وما أخبر به عن نفسه في كتابه الكريم ، أما الآثام العملية فغالبا ما يكون الدافع إليها شهوة أو هوى ، وهذا ذنب أخف وأيسر ، وإن كان كل ذنب في جنب الله كبير .
والله أعلم .
تعليق