الحمد لله.
من المؤلم حقيقة أن نسمع من باحث ودارس ، أو شخص مثقف ، وهو يخبر عن سبب امتناعه من الدخول في الإسلام ، فإذا به يبني هذا الموقف المصيري على سبب غير علمي ، وتوهمات لم تبن على أية مقدمة علمية محققة ، أو مسلمة رصينة .
وهذا الفرض الذي افترضه الباحث : هو أن خطأ ما قد وقع في القرآن الكريم ، لأجل معلومة تاريخية معينة توقف عندها ، تتعلق بأزمنة ضاربة في القِدَم !!
لا بد أن نبين لك أن هذا خلل منهجي في التفكير ، يدل على عدم استيعاب معاني الأديان عامة، والإسلام خاصة .
فالذي يبحث في الأديان يبدأ من العقائد الأساسية التي يقوم عليها ذلك الدين ، ويبحث في البراهين التي جاء بها ليدل على صحته وأحقيته بالاتباع ، وأيضا يبحث في المبادئ والمفاهيم والمقررات التي يصدرها لفهم الحياة الدنيا والآخرة ، ولصلاح الدنيا والآخرة أيضا ، مع اشتمالها على مقومات الإقناع التي تتمكن من تجاوز الحيرة الدائمة في قلب الإنسان وعقله ، ونحو ذلك من القضايا الكلية والمبادئ الأساسية .
ثم يدرس ذلك كله في ضوء شخص النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين ، وما ثبت من سيرته ، وأقواله ، وأفعاله ، وأحواله .
ثم يتوسع فيدرس ما ثبت من سير الأنبياء السابقين ، وحياتهم ، وأعمالهم ، ورسالتهم ، وينظم ذلك كله في سلك واحد من النظر ، والدرس التحليلي.
ومع ذلك ، فإننا نقول لك :
من أين لك أن عدم ذكر شخصية " هامان " في التوراة المطبوعة اليوم ، دليل على عدم وجود هذه الشخصية أصلا في التاريخ الفرعوني ؟!!
وقد اتفق المناطقة وأهل النظر على قاعدة عقلية صحيحة تؤكد أن " عدم الذكر ليس ذكرا للعدم "، بمعنى أن سكوت راو أو كتاب ، عن حدث تاريخي ، أو شخصية تاريخية : لا يعني أن هذا الحدث لم يقع ، أو أن تلك الشخصية معدومة .
ذلك أن التوراة ليست موسوعة تاريخية تدعي حصر تفاصيل تلك الحقبة التاريخية ، هذا ما لم يدعه أحد من فلاسفة اللاهوت اليهودي أنفسهم ، فدعوى انحصار التاريخ فيما ذكرته التوراة فحسب ، وما لم تذكره فهو زيف وكذب وخطأ ، هذه دعوى باطلة ، ليس عليها أي دليل علمي ، وتخالف التوراة نفسها .
ومن ادعى ذلك فهو يتحدث بمنطق يعني أن كل حدث تاريخي ، وكل واقعة ، وكل شخصية ، وكل مرحلة أو عدد أو حديث عن حضارات الأمم البائدة ، أو على الأقل عن الحضارة الفرعونية مثلا ، لم يرد لها ذكر في التوراة ، فهي أخبار مزيفة ، وتاريخ مكذوب غير صحيح !!
وهذا يعني أن كل ما بحث فيه المؤرخون المعاصرون من الغرب أو الشرق عن الحضارة الفرعونية ، وجميع الاكتشافات التاريخية لتلك المرحلة ، وكل المؤلفات الضخمة عن هذه الحضارة ذهبت أدراج الرياح بهذا المنطق الذي تريد التفكير به ، بل وتعترض به على القرآن الكريم !!
إن وقفة تأمل يسيرة منك – أيها السائل الكريم – تدلك على عمق الخلل الذي ينطلق منه سؤالك.
واسمح لنا هنا أن نعكس السؤال عليك فنقول لك :
شخصية تاريخية حقيقية ذكرت في القرآن الكريم ، وهي كبير وزراء فرعون " هامان "، ولم يرد ذكرها في التوراة ، فهذا دليل على نقص العهد القديم ، وتعرضه للضياع والانخرام أثناء مسيرة نقله التاريخية ، وهذا يؤكد ما يؤمن به المسلمون من التحريف الذي أصاب التوراة والإنجيل .
فما جوابك على هذا الكلام ؟!!
أرأيت لو قال لك أحد المسلمين إن العهد القديم كتاب مزيف من أوله إلى آخره ، وأنا لا أومن به لسبب بسيط ، وهو أنه لم يخبر عن المستقبل أن شخصا يدعى " محمدا " سيدعي النبوة في زمن ما ، ويلحق به من الأتباع ما يشكل أعظم أمة بعد الأمة المسيحية . فكيف جوابك عليه أيضا ؟!!
أترى منطقه الذي بنى عليه سؤاله سليما ؟!
أليس هو نفس المنطلق الذي بنيت عليه أنت سؤالك أيضا، وهو أن التوراة بجميع أسفارها كتاب تنبؤات ، فلما سكتت عن التنبؤ بشخص محمد صلى الله عليه وسلم ، دل ذلك على بطلانها ونقصها !! تماما كما تقول لنا أنت : إن التوراة كتاب تاريخ ، فإذا سكتت عن ذكر هامان وزيرا لفرعون ، دل ذلك على بطلان كل الكتب التي تذكره كالقرآن ؟!!
يقول الإمام الرازي رحمه الله :
" قالت اليهود :
أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون : أن هامان ما كان موجودا البتة في زمان موسى وفرعون ، وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ، ودهر داهر . فالقول بأن هامان كان موجودا في زمان فرعون خطأ في التاريخ ؟
وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الاسم في زمانه ، قالوا : لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجودا في زمان فرعون ما كان شخصا خسيسا في حضرة فرعون ، بل كان كالوزير له ، ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية ، فلو كان موجودا لعرف حاله ، وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجودا في زمان فرعون ، وإنما جاء بعده بأدوار ؛ علم أن غلطا وقع في التواريخ ؟
قالوا : ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، فلو أن قائلا ادعى أن أبا حنيفة كان موجودا في زمان محمد عليه السلام ، وزعم أنه شخص آخر سوى الأول ، وهو أيضا يسمى بأبي حنيفة ، فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا هاهنا ؟
والجواب :
أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها ، واضطربت الأحوال والأدوار ، فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب ، فكان الأخذ بقول الله أولى ، بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة ، فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة ، بل هي مضبوطة . فظهر الفرق بين البابين " انتهى من " مفاتيح الغيب " (27/516) .
ورغم ذلك كله ، نؤكد لك أن الاكتشافات التاريخية تؤكد وجود شخصية " هامان " في حياة فرعون ، وكونه من كبار أعوانه ووزرائه ، وقد أكد هذه الاكتشافات مجموعة من الباحثين المختصين .
يقول البروفيسور موريس بوكاي:
" لقد جاء ذكر هامان في القرآن كرئيس المعماريين والبنّائين . ولكن الكتاب المقدس لا يذكر أي شيء عن هامان في عهد فرعون .
وقد قمتُ بكتابة كلمة " هامان " باللغة الهيروغلوفية ( لغة مصر القديمة ) وعرضتها على أحد المختصّين في تاريخ مصر القديمة ، ولكي لا أدعه تحت أي تأثير لم أذكر له أنها وردت في القرآن ، بل قلت له إنها وردت في وثيقة عربية قديمة يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي . فقال لي المختصّ : يستحيل أن ترِد هذه الكلمة في أي وثيقة عربية في القرن السابع ؛ لأن رموز الكتابة باللغة الهيروغلوفية لم تكن قد حلّت آنذاك .
ولكي أتحقق من هذا الأمر فقد أوصاني بمراجعة " قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة " لمؤلفه " أللامند رانك ".
نظرتُ إلى القاموس فوجدت أن هذا الاسم موجود هناك ، ومكتوب باللغة الهيروغلوفية وباللغة الألمانية كذلك . كما كانت هناك ترجمة لمعنى هذا الاسم وهو " رئيس عمّال مقالع الحجر ". وكان هذا الاسم ، أو اللقب ، يطلق آنذاك على الرئيس الذي يتولى إدارة المشاريع الإنشائية الكبيرة .
استنسخت تلك الصفحة من ذلك القاموس وذهبت إلى المختص الذي أوصاني بقراءته ، ثم فتحتُ ترجمة القرآن بالألمانية ، وأريته اسم هامان فيه ، فاندهش ، ولم يستطع أن يقول شيئا .
لو جاء ذكر اسم هامان فرعون في أي كتاب قبل القرآن ، أو لو جاء ذكره في الكتاب المقدس لكان المعترضون على حق ، ولكن لم يرد هذا الاسم حتى نزول القرآن في أي نصّ ، بل ورد فقط على الأحجار الأثرية لمصر القديمة ، وبالخط الهيروغليفي .
إن ورود هذا الاسم في القرآن بهذا الشكل المذهل لا يمكن تفسيره إلا بأنه معجزة ، وليس ثمة أي تعليل آخر . أجل ، إن القرآن أعظم معجزة " انتهى . نقلا عن مقال للباحث التركي أورخان محمد علي في موقع " مجلة حراء " (العدد 7، 2007م) على الرابط الآتي :
وهو ينقله عن كتاب " موسى وفرعون "، المطبوع باللغة الفرنسية ، لذلك لم نتمكن من النقل عنه مباشرة .
ويقول الباحث التركي هارون يحيى :
" على إثر حل لغز اللغة الهيروغلوفية ، تم الوصول إلى معلومات مهمة تتعلق بموضوعنا... كان اسم هامان مذكورا في هذه الكتابات ، فعلى حجرية موجودة حاليا في متحف هوف في فينا يرد هذا الاسم ، وترد الإشارة إلى كونه من المقربين من فرعون .
أما في قاموس " الأشخاص في الملكية الجديدة " الذي تمت كتابته اعتمادا على جميع المعلومات الواردة في جميع الألواح والرقم والأحجار المصرية القديمة فيرد اسم هامان على أنه كان الشخص المسؤول عن عمال مقالع الأحجار .
وكانت النتيجة التي ظهرت للعيان تشير إلى حقيقة مهمة ، وهي أنه بخلاف زعم معارضي القرآن وأعدائه ، فإن هامان كان يعيش في مصر في عهد النبي موسى عليه السلام ، تماما كما ورد في القرآن ، وكان مقربا من فرعون ، ومسؤولا عن الأعمال الإنشائية والبناء . لذا نرى في القرآن أن فرعون يطلب من هامان بناء صرح عال له ، وهذا يتطابق تماما مع هذه المكتشفات الأثرية والتنقيبية : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ ) القصص/38.
والخلاصة :
إن اكتشاف اسم هامان في الكتابات المصرية القديمة هدم مزاعم كثيرة باطلة ضد القرآن ، وأثبت أن القرآن من عند الله تعالى ؛ لأنه كان ينقل إلينا بشكل معجز في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم معلومة تاريخية لم يكن في الإمكان معرفتها آنذاك من قبل أي أحد " انتهى من كتابه " المعجزات القرآنية " (ص/73) وقد أحال كلامه هذا إلى مجموعة من المراجع والمصادر باللغة التركية. وللتوسع ينظر كتاب " رمسيس الثاني ، فرعون المجد والانتصار "، لمؤلفه أ. كتشن. كنت، ترجمة أحمد زهير أمين .
والله أعلم .
تعليق