الحمد لله.
أجاز الشرع الحنيف للرجل أن يتزوج بزوجتين وثلاث وأربع ، بشرطين :
الشرط الأول : القدرة على النفقة وتكاليف الزواج , فقد أخرج البخاري (5066) ، ومسلم (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شباباً لا نجد شيئاً ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) .
قال النووي رحمه الله : "
اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين ، يرجعان إلى معنى واحد , أصحهما :
أن المراد معناها اللغوي ، وهو الجماع ، فتقديره : من استطاع منكم الجماع ، لقدرته
على مؤنه ، وهي مؤن النكاح : فليتزوج , ومن لم يستطع الجماع ، لعجزه عن مؤنه :
فعليه بالصوم ؛ ليدفع شهوته , ويقطع شر منيِّه ، كما يقطعه الوجاء , وعلى هذا القول
: وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ، ولا ينفكون عنها غالبا .
والقول الثاني : أن المراد هنا بالباءة : مؤن النكاح ، سميت باسم ما يلازمها ,
وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح : فليتزوج ، ومن لم يستطع فليصم لدفع شهوته ,
والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوه ، قوله : ( ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) ،
قالوا : والعاجز عن الجماع ، لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة , فوجب تأويل الباءة
على المؤن , وأجاب الأولون بما قدمناه في القول الأول ، وهو أن تقديره : من لم
يستطع الجماع ، لعجزه عن مؤنه ، وهو محتاج إلى الجماع : فعليه بالصوم . والله أعلم
. " انتهى من " شرح النووي على صحيح مسلم " (9/173) ، ونقله ابن حجر في " فتح
الباري لابن حجر " (9 /108) .
الشرط الثاني: أن يعدل بينهن
في النفقة والقَسْم ( المبيت ) , فمن كان غير قادر على العدل : صار التعدد في حقه
محظورا , ووجب عليه أن يكتفي بامرأة واحدة , قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ مَا
مَلَكتْ أيْمانُكم) النساء/ 3 .
وأما غيرة الزوجة الأولى من
التعدد : فهي أمر فطري طبيعي ، جبلت عليه النساء ، لا مفر منه بالنسبة لهن ,
والمرأة غير مؤاخذة عليه - إن شاء الله تعالى - ما دامت الغيرة مجرد هواجس في عقلها
، وانفعالات في صدرها , وكانت في نفس أمرها : راضية بحكم الله وشرعه ، ملتزمة في
أقوالها وأفعالها بأحكام الشرع الحنيف وآدابه , فلم تبغ على زوجها ، ولم تنشز عليه
.
أما إن ركبت مركب الهوى ، واتبعت خطوات الشيطان ونزغاته ، وسارعت في البغي أو
النشوز على الزوج ، أو تحريض الأولاد على أبيهم ، أو طلب الطلاق من غير بأس وقع
عليها من ذلك , فهنا تكون قد دخلت في دائرة المؤاخذة ، وتعدت حدود الله سبحانه ,
ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه .
ولتعلم الزوجة أن الدنيا دار اختبار وابتلاء , وأن الله سبحانه قد خلق الإنسان من
نطفة أمشاج ليبتليه , وتزوج الزوج على زوجته الأولى : لا شك أنه نوع من البلاء ،
تطالب بالصبر عليه ، كما تطالب بالصبر على غيره من البلاء , فعليها أن تصبِّر نفسها
وتسليها .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ،
وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ) أخرجه البخاري
(1469) ، ومسلم (1053) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
وأخرجه الإمام أحمد (11091) من طريق أخرى بلفظ : ( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ
اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ،
وَمَا أَجِدُ لَكُمْ رِزْقًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) ، وإسناده حسن .
وقَوْله : ( وَمَا أُعْطِىَ
أَحَدٌ عَطَاء خَيْرًا وَأَوْسَع مِنْ الصَّبْر ) .
قال القاري رحمه الله : " وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلَى
الْمَقَامَاتِ ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ وَالْحَالَاتِ ،
وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَوْسَعَ : أَنَّهُ تَتَّسِعُ بِهِ الْمَعَارِفُ ،
وَالْمَشَاهِدُ ، وَالْأَعْمَالُ ، وَالْمَقَاصِدُ " انتهى من " مرقاة المفاتيح "
(4/1311) .
وقال ابن بطال رحمه الله :"
أرفع الصابرين منزلة عند الله : من صبر عن محارم الله ، وصبر على العمل بطاعة الله
، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته ، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم : (
لن تعطَوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر) " انتهى من " شرح صحيح البخارى " (10/182) .
أما من ناحية غضب أمه عليه ،
إن تزوج فهذا غضب في غير محله ، ولا يحق للأم أن تقف حجر عثرة أمام ابنها في أمر
الزواج الثاني ، فهو أمر مشروع وطريق للصيانة والعفاف , ولربما كان الابن بحاجة
للزواج الثاني , فإن من الرجال من لا تعفه المرأة الواحدة ، ويحتاج إلى أكثر من
امرأة لشدة شهوته ، ونحو ذلك , فلا يجوز للأم أن تضيق على ابنها في أمر كهذا , ولا
يجوز لها أن تهجره أيضا ، فإن الهجر بين المسلمين حرام ، وهو بين ذوي الأرحام أشد
وأشنع , ثم إن الابن لم يرتكب من مخالفة الشرع ، ولا من التفريط في بر أمه ما
يستوجب الهجر والمقاطعة .
على أننا – أيضا - لا نرى
للولد أن يغضب أمه ، ويتزوج وهي كارهة لذلك ، مغاضِبة لولدها بسببه ، فكيف سيكون
أمره مع أمه ، وهي على تلك الحال ، مع تقدير أن بعض الأمهات يطول بهن أمر الغضب
والهجر لأبنائهن ، من أجل أمر كهذا ، فليس من العقل أو الحكمة أن يمضي في أمر زواجه
، وهو بتلك الحال ، إلا إذا خشي على نفسه العنت ، وشق عليه ألا يتزوج بأخرى .
وإنما عليه أن يسترضي أمه ، ويصبر عليها ، لعلها أن تتراجع عن قرارها هذا ، وأن تعين ابنها على برها ، فرحم الله والدا أعان ولده على بره , وقد سبق أن بينا في الفتوى رقم : (180630) حكم من أراد التعدد ووالداه يرفضان ذلك .
والله أعلم .
تعليق