الحمد لله.
أكثر ما يؤلمنا في مثل هذه الأسئلة ليس هو الشبهة نفسها ، فأفكار الناس كثيرة ، وما يوحيه شياطين الإنس والجن أكثر وأكثر ، ولكن المؤسف حقا أن يتجرأ الناس على النقد وكأنهم من كبار النقاد الذين أفنوا أعمارهم في دراسة الأحاديث والآثار النبوية ، وشابت رؤوسهم وهم يدرسون اللغة العربية ، ويتعرفون إلى التاريخ الإسلامي في عصر الرواية ، فأصبحوا مختصين في الحكم على الروايات ، ولا يتورعون عن وصفها بالصدق أو بالكذب ، أو بأنها " أحاديث سخيفة " .
وللأسف هذا ما وقع في السؤال .
والواقع المقابل أن كل هؤلاء لا يجرؤ أحدهم على الحديث في تاريخ الحضارة الرومانية القديمة مثلا ، ولا يُقدم على التكلم حول خصائص شعب التبت مثلا ، ولا يطرح رأيه فيما يسمعه من أساطير حضارة الفراعنة أيضا ، فضلا أن يتحدث عن هذه الأمور بروح " الناقد " الذي يستبعد عقله " الفذ " !! صدق بعض الروايات أو كذبها حول هذه القضايا التاريخية ، كل ذلك خوفا أن يفضح نفسه فينكشف جهله وعواره بين المختصين ، والعلماء في هذه المجالات .
أما حين يتعلق الأمر بالتاريخ الإسلامي ، وبالحقبة النبوية المشرفة والمطهرة ، وبعلم هو من أدق العلوم على وجه الأرض ، وهو علم النقد والعلل ، ويرافقه علم اللغة العربية العميق ، فتراه يخوض ويفصل ويطرح رأيه وكأنه إحدى المسلمات ، متجاوزا كل أسباب المنهجية العلمية في البحث والنقد ، ومن أهمها دراسة التخصص ، والعناية بكل الظروف المحيطة في الفترة التاريخية التي ينقد مروياتها ، والاطلاع على تفاصيل المناهج النقدية لدى المختصين في هذا الفن ، وهم المحدثون وعلماء العلل.
ونحن نعلم أن كثيرا من الذين ينفثون وساوسهم لا يلبثون أن يقرؤوا بدايات الردود عليهم ، حتى يدركوا أنهم كانوا في جهالة تامة عن أمور مسلمة بديهية في العلوم الشرعية واللغوية ، ولكن شياطين النفوس هي التي تحول بينهم وبين التأني والموضوعية والاعتدال .
فمثلا ، لعل السائل لا يعلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن نفسه أنه أعطي قوة أربعين أو ثلاثين رجلا ،
وإنما هذا تقدير بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من عند أنفسهم ، لما يرونه من
قوة بدنية له عليه الصلاة والسلام ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( كُنَّا
نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ ) رواه البخاري (268) .
فهو كلام بعض الصحابة الكرام من تقديرهم ، وهم بشر يخطئون ويصيبون ، ولم ينسبوه إلى
كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقلوه عنه ، إنما تحدثوا بذلك على سبيل
التقدير أو الاجتهاد الذي يحتمل الصواب والخطأ من عند أنفسهم ، ومن اعتقد بخطئهم أو
مبالغتهم أو اعتقد أن كلامهم لا ينطبق على جميع الأحوال فلا تثريب عليه ، فقد ثبت
عَنْ عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قَالَتْ
: ( إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ ؟
وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ ، أَنَا وَهَذِهِ، ثُمَّ نَغْتَسِلُ ) رواه مسلم (350) .
ومن اعتقد بصواب تقديرهم فلا تثريب عليه أيضا ، ولكن لا ينسبه أحد إلى كلام النبي
صلى الله عليه وسلم ، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام .
ثم أين هو التعارض مع القرآن الكريم في هذا الحديث !! فقوته البدنية عليه الصلاة
والسلام لم تخرج عن إطار البشرية . وإذا كنتَ تستبعدُ صحة مثل هذا التقدير من بعض
الصحابة الكرام فاعلم أن في الناس اليوم من أعطي قوة عشر رجال وأكثر في جماع النساء
في اليوم الواحد ، وهي حالات موجودة ومثبتة طبيا وواقعيا ، عرضت علينا وعلى كثير من
المفتين ، فلماذا تستغرب هذا التقدير من بعض الصحابة الكرام !!
وإذا كنت تؤمن بنبوته صلى الله عليه وسلم ، وأنه يأتيه الوحي من السماء ، في أمر
معجز لا يفسره العلم الحديث ، ولا يؤمن به الماديون الملحدون ، فلماذا تستغرب أمرا
يسيرا كهذا ، أن يمنحه الله سبحانه قوة بدنية زائدة !!
ألم تقرأ قول الله عز وجل – عن نبي الله الملك طالوت - : ( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ ) البقرة/247.
ألم تسمع وتشاهد رجالا خارقي القوى يمارسون بعض التحديات التي يعجز عنها الجمع من
الرجال !! وكلها أمور مشاهدة ومنتشرة عبر وسائل العلم اليوم .
حين يدعي أحد من البشر أن خبرا ما يتناقض مع العلم فعليه أولا أن يثبت حقيقة
التناقض ، فالعلم الحديث لا يتسرع بالنفي كما يفعل عامة الناس اليوم ، بل يفترض أن
المجهول عنده أكثر من المعلوم ، وأن النفي مزلة ومظنة للخطأ .
وهكذا الأحاديث الأخرى الواردة في السؤال ، نستغرب أن يدعي أحد معارضتها للقرآن
الكريم ، ويبلغ به الحال أن يستهزئ بها ، وهو لا يعلم أساليب اللغة العربية في
الدلالة على المعاني ، وكأنه لم يقرأ أبدا في بيان العرب وبلاغتهم كيف يشبهون كل
سيء بالشيطان وينسبونه إليه، حتى في القرآن الكريم وقع التشبيه على مقتضى بيان
العرب . وفي الشعر العربي قول ابن دريد: يبيتُ على مثلِ جمرِ الغضا *** وإنْ باتَ
فوقَ مهادٍ وطيِّ . كناية عن شدة الحرقة والألم أو الغضب .
ألا يعلم هذا المستهزئ أن بعض علماء الحديث قالوا إن مبيت الشيطان على خيشوم
الإنسان المقصود به تشبيه الأذى والقذر الذي يجتمع في الفم والأنف عقب النوم
بالشيطان الذي هو رمز الأذى والقذر.
يقول الإمام القرطبي رحمه
الله :
" يحتمل أن يكون ذلك عبارة عما ينعقد من رطوبة الأنف وقذره الموافقة للشيطان ، وهذا
على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستشنع إلى الشيطان ، ، كما قال تعالى : (
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ) الصافات/65. وكما قال الشاعر :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال . وهي الشياطين .
ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة ، كما قال عليه الصلاة
والسلام : ( يعقد الشيطان على قافية رأي أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد )، ويكون أمره
بالاستنثار أمرا بالوضوء ، كما جاء مفسرا في غير كتاب مسلم : ( فليتوضأ وليستنثر
ثلاثا ، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه )" انتهى من " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح
مسلم " (1/483)
ويقول القاضي عياض رحمه الله :
" يحتمل أن يكون هذا على الحقيقة ؛ لأن الأنف أحدُ منافذ الجسم الذي يتوصل إلى
القلب منها ، لا سيَّما وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين ،
وفى الحديث : ( إن الشيطان لا يفتح غلقاً )، وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل
دخول الشيطان في الفم حينئذ.
أو يكون على طريق الاستعارة ، فإن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم من القذارة
وضد النظافة التي توافق الشيطان - وهي منه - وأمره بذلك إشارة إلى القيام للوضوء
للصلاة ، كما جاء في الآية ، وكما جاء في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ، وقد جاء
مبينًا في غير كتاب مسلم : ( فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على
خياشيمه ) " انتهى من " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (2/ 31) ، وانظر النووي في "
شرح مسلم " (3/127) ، والعراقي في " طرح التثريب " (2/53) .
ويقول المناوي رحمه الله :
" أي حقيقة ، أو مجازا عن الوسوسة بالكسل والكلال ... فإذا قام من نومه وترك
الخيشوم بحاله استمر الكسل والكلال ، واستعصى عليه النظر الصحيح ، وعسر الخضوع
والقيام بحقوق الصلاة وأبوابها " انتهى من " التيسير بشرح الجامع الصغير " (1/ 72)
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله :
" من أَقرب ما قيل فيها أَن الإِنسان إِذا نام طاف به الشيطان ، وحرص على أَذاه كما
جاء في الاستنثار . وأَيضًا هو يحب أَن يضر الإِنسان ، فهو يحرص على قلبه وحواسه
... وعلى خياشيمه ، ولا يمنع أيضًا أَنه تعبدي " انتهى باختصار من " فتاوى ورسائل
سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم " (2/59).
فأين هذا المستهزئ من كل هذه السعة اللغوية ، والبيان البلاغي !!
وعلى فرض ترجيح حمل الحديث على ظاهره ، فهل يتصور السائل الشيطان وهيئته التي خلق
عليها أصلا ، كي يستنكر شيئا من صفاته وأحواله ، وهل يمكن لأحد أن يتعرف على طريقة
مبيت الشيطان في بيته ، حتى يستنكر مبيت الشيطان على خيشوم الإنسان !!
إذا سلمت معنا أن ذلك كله من عالم الغيب الذي لم نطلع على حقيقته ، فلماذا تخوض في
أمر لا تملك أدوات الخوض فيه ، وما حالك إلا كمن جلس على شفير بحر هدار ، وأخذ يخمن
ما في هذا البحر من عجائب الخلق التي لم يشاهدها ولم يسمع عنها ، فهل تراه سيخرج
بنتيجة ولو مكث على حاله مئات السنين !! وهل ترى أحدا يقبل إنكاره كل ما في هذا
البحر من العجائب بدعوى أنه لا يتصورها !!
إذن فالعقل السليم يقضي باحترام الحدود التي يضيع إذا تجاوزها ، ويهدر طاقته إذا لم
يقف عندها، بل ويقضي أن عالم الغيب له قواعده الخاصة التي تحكمه ، فمن الجهل الواضح
محاكمة عالم الغيب بقواعد عالم الشهادة ، والصواب مراعاة الفوارق الهائلة بين
العالمين .
ولهذا قال بعض العلماء :
" الحق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن الأسرار الربوبية ، ومعادن الحكم
الإلهية ، أن لا يتكلم في هذا الحديث وأخواته بشيء ، فإنه تعالى خص رسوله بغرائب
المعاني ، وكاشفه عن حقائق الأشياء ما يقصر عن بيانه باع الفهم ، ويكل عن إدراكه
بصر العقل " انتهى من " التيسير بشرح الجامع الصغير " (1/ 72)
تعليق