الحمد لله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره يدعو إلى الله سرا مستخفيا ، لئلا يصيبه أو يصيب أحدا ممن اتبعه وآمن به ، الشرُّ والأذى من سفاء قريش ، فيتعطل سبيل الدعوة ، حتى نزل قول الله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر/ 94 ، فجهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته .
روى الطبري في " تفسيره " (17/152) عن عبد الله بن عبيدة قال : " مازال النبيّ مستخفيا حتى نزلت ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فخرج هو وأصحابه " .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستر النبوة ويدعو إِلَى الإسلام سرا ، وكان أَبُو بكر رضي اللَّه عنه يدعو أيضا من يثق به من قومه ممن يغشاه ، ويجلس إليه ، فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله عز وجل : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ، فأظهر الدعوة " انتهى من " المنتظم في تاريخ الأمم والملوك " (2/364) .
وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي المركز الرئيسي لانطلاق الدعوة ، واجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين ليعلمهم الدين .
قال تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) مريم/ 73 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" (خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا) أَيْ : أَحْسَنُ مَنَازِلَ وَأَرْفَعُ دُوْرًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ، وَهُوَ مَجْمَعُ الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ ، أَيْ : نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وَطَارِقًا ، يَعْنُونَ : فَكَيْفَ نَكُونُ وَنَحْنُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى بَاطِلٍ ، وَأُولَئِكَ الَّذِينَ هُمْ مُخْتَفُونَ مُسْتَتِرُونَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ وَنَحْوِهَا مِنَ الدُّورِ عَلَى الْحَقِّ ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) الأحقاف/11 " انتهى من " تفسير ابن كثير" (5/257) .
وكان اسم الأرقم بن أبي الأرقم : عبد مناف بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم ، ويكنى أبا عبد اللَّه .
" الإصابة " (1/ 196) .
وروى ابن مندة عن عبد اللَّه بن عثمان بن الأرقم عن جده - وكان بدريا ، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في داره التي عند الصفا حتى تكاملوا أربعين رجلا مسلمين ، وكان آخرهم إسلاما عمر ، فلما تكاملوا أربعين رجلا خرجوا .
" الإصابة " (1/197) .
وكان كثير من الصحابة الأوائل رضي الله عنهم قد أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ، منهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وخباب وعامر بن فهيرة ومعمر بن الحارث وواقد بن عبد الله وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم .
" سير أعلام النبلاء " (3/119) .
وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه قال : قال عمار : " لقيت صهيبا على باب دار الأرقم وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلنا ، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ، ثم مكثنا يوما على ذلك حتى أمسينا فخرجنا ونحن مستخفون " .
"سير أعلام النبلاء" (3/ 350).
وقال المباركفوري رحمه الله :
" كان من الحكمة تلقاء اضطهادات المشركين أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا ، وألا يجتمع بهم إلا سرا ؛ لأنه إذا اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة ، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين .
ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم ، فكان من الحكمة الاختفاء ، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع مع المسلمين سرا ؛ نظرا لصالحهم وصالح الإسلام ، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا . وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم ، فكان أن اتخذها مركزا لدعوته ، ولاجتماعه بالمسلمين " انتهى بتصرف يسير من " الرحيق المختوم " (ص/80) .
فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول مركز دعوي إسلامي ، انطلقت منه الدعوة ، واجتمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يعلمهم ويزكيهم .
ولا يحسن تسميتها بالمركز السري للدعوة .
والله أعلم .
تعليق