الحمد لله.
أولا :
أعظم من الجواب على مقدار الدية هو الجواب على شنيع هذا الفعل ، وسوء تلك النفس التي تمازح بما فيه الحتف والموت ، تستبيح القتل ، وتتهاون في أسباب الأذى والموت بما يبلغ مدى لا أبعد منه استهتارا واستخفافا وجرأة على شريعة الله سبحانه وتعالى .
فليأخذ العبرة كل من تسول له نفسه مثل هذه الأفعال الفظيعة ، وليتعلم الدرس كل المستكبرين الذين لا يراعون الحرمات ، ولا يحتاطون لدماء الناس وأعراضهم ، فيتسببون بالفجيعة للأم المكلومة التي فقدت وحيدها ، وكأنها لا يكفيها ما فجعت به في بلدها السليب لأعمال القتل والدمار ، وأهلها الذين شردتهم الحرب في بلاد الله الواسعة !!
فلنتق الله تعالى في أنفسنا
أولا ، ولنعلم أننا محاسبون على أعمالنا ، وأنه لا يضيع عند الله عز وجل مثقال ذرة
من ظلم وعدوان .
يقول الله عز وجل : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) فاطر/45 .
ثانيا :
أما حساب مقدار الدية ، فهي مائة من الإبل ، يسلمها القاتل إلى أهل المقتول كاملة
غير منقوصة ، مهما بلغ ثمنها وقيمتها . فإن لم تتوفر الإبل في بلادكم ، أو كانت
بأعلى من سعر المثل نتيجة بعض الظروف ، أو تم التوافق مع أولياء المقتول على دفع
قيمة الإبل بدلا عنها ، أو التصالح على مبلغ أقل من قيمة الدية : فلا حرج في ذلك .
يقول الله تعالى : ( ومَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ) النساء/92 ، فقد دل هذا القول
الكريم على أن الواجب في القتل الخطأ الكفارة والدية . ولقد وضح النبي صلى الله
عليه وسلم المراد بالدية في الآية الكريمة في أحاديث كثيرة ، منها في قصة قتل عبد
الله بن سهل رضي الله عنه ، قال : ( فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ ) رواه البخاري (7192) ، ومسلم
(1669) .
وأيضا الحديث الذي رواه مالك في " الموطأ " (2/849) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ أَنَّ فِي
الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ : ( أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ) ، ودل
عليه أيضا حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ
: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ
الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ أَوِ
الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ - وَقَالَ مَرَّةً : الْمُغَلَّظَةُ -
فِيهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً ، فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ) رواه أحمد في "
المسند " (8/188) وقال المحققون : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِي دِيَةِ الْخَطَإِ عِشْرُونَ حِقَّةً ،
وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ،
وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُرٍ ) رواه أبو داود في " السنن " (4545) ، ولكن في
إسناده ضعفا بسبب حجاج بن أرطأة ، والاختلاف في أوجه روايته بين الرفع والوقف ، وقد
أعله الدارقطني في " السنن " (3364) ، وضعفه محققون آخرون ، منهم الألباني في "
ضعيف سنن أبي داود " .
وقد نص فقهاء الشافعية ، وفي رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، أنه لا يجزئ سوى ذلك ، إما مائة من الإبل ، أو قيمتها مهما بلغت ، إلا أن يعفو أولياء المقتول .
يقول النووي رحمه الله :
" في قتل الحر المسلم مائة بعير ... ومن لزمته وله إبل فمنها ، وقيل من غالب إبل
بلده ، وإلا فغالب قبيلة بدوي ، وإلا فأقرب بلاد ، ولا يعدل إلى نوع وقيمة إلا
بتراض ، ولو عدمت فالقديم ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم . والجديد قيمتها بنقد
بلده " انتهى من " منهاج الطالبين " (ص/279)
وقال الخطيب الشربيني
الشافعي رحمه الله – في شرح ما سبق - :
" الجديد الواجب قيمتها ، أي الإبل ، وقت وجوب تسليمها ، بالغة ما بلغت ؛ لأنها بدل
متلف فيرجع إلى قيمتها عند إعواز أصله ، وتقوَّم بنقد بلده الغالب ؛ لأنه أقرب من
غيره وأضبط " انتهى من " مغني المحتاج " (5/300) .
ويقول المرداوي رحمه الله :
" وعن [ الإمام أحمد ] : أن الإبل هي الأصل خاصة . وهذه أبدال عنها . فإن قدر على
الإبل أخرجها . وإلا انتقل إليها . قال ابن منجا في شرحه : وهذه الرواية هي الصحيحة
من حيث الدليل . قال الزركشي : هي أظهر دليلا ، ونصره . وهي ظاهر كلام الخرقي . حيث
لم يذكر غيرها . وقال جماعة من الأصحاب ، على هذه الرواية : إذا لم يقدر على الإبل
انتقل إليها . وكذا لو زاد ثمنها " انتهى من " الإنصاف " (10/58) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" هذا هو ظاهر كلام الخرقي رحمه الله ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وجماعة من
الأصحاب ، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا ، فلا يزال الناس من قديم الزمان يحكمون
بأن الأصل في الدية الإبل " انتهى من " الشرح الممتع على زاد المستقنع " (14/119) .
وبناء على ما سبق ، فالواجب على القاتل أداء دية شبه العمد ، مائة من الإبل مغلظة ، بالأسنان الآتية : خمساً وعشرون بنت مخاض ( دخلت في السنة الثانية ) ، وخمساً وعشرون بنت لبون ( دخلت الثالثة ) ، وخمساً وعشرون حقة ( دخلت عامها الرابع )، وخمساً وعشرون جذعة ( دخلت الخامسة من العمر ) .
أو تقدير قيمتها في البلد التي وقعت فيها جريمة القتل ، ودفع تلك القيمة لأولياء المقتول .
وإنما قلنا إنها دية شبه عمد ؛ لأن القاتل قصد المقتول بالمسدس ، ولكنه ظن أنه لا يشتمل على الرصاص ، فوقع القتل ، ولو غلب على ظن القاضي أن القتل عمد فله أن يحكم بذلك ، فمثل هذا التصرف الأهوج قد يكون عمداً ، ولا يجوز أن يمر بسهولة وخاصة إذا وجدت عداوة سابقة بينهما أو ادعى أولياء الدم عليه بأنه متعمد ، فلا بد من نظر القاضي الشرعي ، ولا تؤخذ الفتوى به من موقعنا دون النظر في جميع الملابسات ، فإذا قضى القاضي بأنه ليس بعمد تؤدى دية ( شبه العمد ) كما سبق ، وليست دية ( الخطأ ) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" النوع الثاني : الخطأ الذي يشبه العمد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن
في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون خلفة
في بطونها أولادها ) سماه شبه العمد ؛ لأنه قصد العدوان عليه بالضرب ؛ لكنه لا يقتل
غالبا . فقد تعمد العدوان ، ولم يتعمد ما يقتل " انتهى من " مجموع الفتاوى "
(28/378) .
وللمزيد ينظر الفتوى رقم : (52809) .
والله أعلم .
تعليق