الحمد لله.
بعد الاطلاع على كلام محمد أسد رحمه الله (ت1992م) في تعليقه على الآية (24) من سورة النساء ، تبين لنا أنه وقع لديه لبس في فهم كلام المفسرين ، وأن حصره ( ملك اليمين ) بالزواج لم يقل به أحد من العلماء .
ولذلك ننقل هنا كلامه – مترجما من الإنجليزية إلى العربية – ثم نعلق عليه بإذن الله .
يقول محمد أسد عفا الله عنه :
" إن كلمة ( محصنة ) تدل على تحصين عفة المرأة ، وتحمل ثلاثة معان :
المرأة المتزوجة .
أو العفيفة .
أو المرأة الحرة .
وعند المفسرين كافة : تدل كلمة ( محصنة ) في النص أعلاه على المتزوجة .
وأما في آية ( ما ملكت أيمانكم ) فغالبا ما تدل على النساء اللواتي تم سبيهن في الحروب التي قامت في سبيل الله .
إن المفسرين الذين أخذوا بهذا المعنى يؤمنون بأن النساء الجواري اللواتي تم سبيهن ، من الممكن أن يتم تزوجهن ، بغض النظر عن ارتباطهن بزوج في بلدانهن الأصلية أم لا .
بالرغم من الاختلاف الرئيسي في وجهات النظر ، وحتى بين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدى شرعية هذا الزواج ، فإن معظم المفسرين المشهورين يفسرون ( ما ملكت أيمانكم ) بالنساء اللواتي تملكوهن بعقد النكاح . وظهر هذا في تعليق الرازي والطبري - بالرجوع إلى عبد الله بن عباس ومجاهد وآخرين -.
يعتقد الرازي تحديدا في تعليقه أن هذه الآية (المحصنات من النساء) - بعد تعداد درجة المحظورات في العلاقات - تؤكد على تحريم أي علاقة جنسية مع أية امرأة خارج إطار الزوجية" انتهى من ترجمته للقرآن التي نشرت بعنوان " رسالة القرآن " (ص/162-163).
وهذا أصل كلامه بالإنجليزية :
The term muhsanah signifies literally “a woman who is fortified [against unchastity],” and carries three senses:
(1) “a married woman,”
(2) “a chaste woman,” and
(3) “a free woman.”
According to almost all the authorities, al-muhsanāt denotes in the above context “married women.” As for the expression mā malakat aymānukum (“those whom your right hands possess,” i.e., “those whom you rightfully possess”), it is often taken to mean female slaves captured in a war in God’s cause (see in this connection 8:67, and the corresponding note). The commentators who choose this meaning hold that such slave-girls can be taken in marriage irrespective of whether they have husbands in the country of their origin or not.
However, quite apart from the fundamental differences of opinion, even among the Companions of the Prophet, regarding the legality of such a marriage, some of the most outstanding commentators hold the view that mā malakat aymānukum denotes here “women whom you rightfully possess through wedlock”; thus Rāzī in his commentary on this verse, and Tabarī in one of his alternative explanations (going back to ‘Abd Allāh ibn ‘Abbās, Mujāhid, and others). Rāzī, in particular, points out that the reference to “all married women” (al-muhsanāt min an-nisā’), coming as it does after the enumeration of prohibited degrees of relationship, is meant to stress the prohibition of sexual relations with any woman other than one’s lawful wife.
* Lit., “with your possessions” – i.e., offering them, as the Law demands, an appropriate dower.
* Cf. verse 4 of this sūrah, and the corresponding note.
https://bit.ly/3cER1kX
والذي قاله محمد أسد هو غلط ظاهر في فهم كلام الطبري والرازي رحمهما الله ، لأن قولهما إن المقصود بالآية : المتزوجات من النساء ، لا يعنون بذلك أبدا كلمة ( ما ملكت أيمانكم )، بل يعنون الجزء الأول من الآية ( والمحصنات من النساء )، وإنما أشكل على محمد أسد أن الرازي قال : " وقوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) يعني : ذوات الأزواج " .
انتهى من " مفاتيح الغيب " (10/33).
فلما أورد الرازي التفسير بعد سرد الجملة كاملة ، ظن محمد أسد رحمه الله أن الرازي يعني بقوله : " ذوات الأزواج " تفسير قول الله : ( ما ملكت أيمانكم )، والصواب أنه يفسر الكلمة الأولى : ( والمحصنات من النساء ).
فالمعنى : أن الله عز وجل حرم على المسلمين الزواج من النساء المتزوجات ؛ لأنهن في عصمة أزواجهن ، وفي عقد نكاح محترم بينهم وبينهن ، إلا النساء اللاتي وقعن في ملك اليمين ، وهن ذوات أزواج في بلدانهن ، فهؤلاء النساء غير محرمات عليكم ، ولو كن ذوات أزواج ؛ لأنهن وقعن في ملك اليمين .
ولا ننكر أن الرازي رحمه الله ذكر أقوالا عدة في تفسير هذه الآية ، وبعض هذه الأقوال يذهب إلى أن الاستثناء في ( إلا ما ملكت أيمانكم ) يريد به الزواج ؛ لأن الزواج يشبه ملك اليمين بحكم أن الزوجة تصبح مقصورة على زوجها ؛ ولكن الرازي رحمه الله لم يقصد بذلك أبدا أن ينفي أن ( ملك اليمين ) في الشريعة الإسلامية كاف لحل الجماع من غير زواج ، ولم يُرِدْ أن كل تعبير قرآني فيه ( ملك اليمين ) فالمقصود به الزواج ، وإنما ذكر أن هذا قول لبعض المفسرين في هذه الآية خاصة ، وليس في جميع مواردها في القرآن الكريم .
يقول رحمه الله :
" في قوله : ( والمحصنات من النساء ) قولان :
أحدهما : المراد منها ذوات الأزواج ، وعلى هذا التقدير ففي قوله : ( إلا ما ملكت أيمانكم ) وجهان :
الأول : أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها ، إلا إذا صارت ملكا لإنسان فإنها تحل للمالك .
الثاني : أن المراد بملك اليمين هاهنا ملك النكاح ، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين أزواجهن .
والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا ، والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد ، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة ، وعبر عن ذلك بملك اليمين ؛ لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك .
القول الثاني : أن المراد هاهنا بـ ( المحصنات ) الحرائر ، والدليل عليه قوله تعالى - بعد هذه الآية -: ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) [النساء: 25] ذكر هاهنا المحصنات ثم قال بعده : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) كان المراد بالمحصنات هاهنا ما هو المراد هناك ، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر ، فكذا هاهنا .
وعلى هذا التقدير ففي قوله : ( إلا ما ملكت أيمانكم ) وجهان :
الأول : المراد منه : إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم ، وهو الأربع ، فصار التقدير : حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع .
الثاني : الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن ، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة .
فهذا الأول في تفسير قوله : ( إلا ما ملكت أيمانكم ) هو المختار ، ويدل عليه قوله تعالى : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [المعارج : 29، 30]، جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها ، فوجب أن يكون هاهنا مفسرا بذلك ؛ لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق إلى الصدق والصواب . والله أعلم ".
انتهى من " مفاتيح الغيب " (10/34) .
فليس في كلام الرازي حصر تفسير ( ملك اليمين ) بعقد الزواج ، بل صرح أن المختار في تفسير الآية أن معناها : تحريم المرأة المزوجة على الرجل المسلم إلا إذا كانت أمة (ملكا لليمين) قد أُسرت في المعركة فإنها تحل لمالكها ولو كانت ذات زوج في بلدها ، وذلك بعد أن تعتد بحيضة .
وأما الإمام الطبري فقد ذكر الأقوال التي قيلت في معنى الآية الكريمة ثم اختار أن معناها : "كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حرام علينا سفاحا أو نكاحاً إلا ما ملكته أيماننا بشراء كما أباحه الله لنا كتاب الله جل ثناؤه ، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله " ثم ذكر أن "اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء" .
تفسير الطبري (3/2231) .
والراجح في معنى الآية : هو المعنى الأول الذي اختاره الرازي، وكلام ابن جرير لا يبعد عنه كثيرا ولا يخالفه ، غير أنه ذهب إلى أن معنى الآية أعم وأشمل .
ويدل على ترجيح هذا القول في تفسير الآية سبب نزولها الذي رواه مسلم في صحيحه .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
" معنى الآية : وحرمت عليكم المتزوجات ; لأن ذات الزوج لا تحل لغيره ، (إلا ما ملكت أيمانكم) بالسبي من الكفار، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر .
وهذا القول هو الصحيح ، وهو الذي يدل القرآن لصحته ; لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح ، وملك اليمين لم يرد في القرآن إلا بمعنى الملك بالرق ، كقوله : ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )، وقوله : ( وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) [33 50] ، وقوله : ( والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ) [4 36] ، وقوله : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [23 5، 6] ، في الموضعين .
فجعل ملك اليمين قسما آخر غير الزوجية .
وقوله: ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم ) [24 33]
فهذه الآيات تدل على أن المراد بـ ( ما ملكت أيمانكم ) الإماء ، دون المنكوحات ، كما هو ظاهر .
ويؤيده سبب النزول ; لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم . فنزلت هذه الآية : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم )، فاستحللنا فروجهن )" انتهى من " أضواء البيان " (1/234)
وما قرره العلامة الشنقيطي رحمه الله هنا أن " ملك اليمين قسم آخر غير الزوجية " نتيجة توصل إليها باستقراء آيات القرآن الكريم ، وليس رأيا اجتهاديا محضا .
وقد سبق في موقعنا مجموعة من الفتاوى التي تبين هذا الحكم ، وتبين سياقه ونظرة الشريعة إليه.
ينظر : (10382) ، (20085) ، (20802) ، (125442) ، (162347) .
وشرحُ رسالة الإسلام لا يكون بإنكار الحقائق أو محاولة إخفائها وتأويلها ، بل بقراءة هذه الحقائق التشريعية في سياقها الصحيح ، ومعرفة المصالح المترتبة عليها في حق الفرد والمجتمع .
والإسلام يخاطب بتشريعاته أصحاب العقول والأفهام ، ولا يعيبه أن بعض ضعاف العقول أو مرضى النفوس يعترضون على تشريعاته ولا يقبلونها .
وصدق من قال :
وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم .
وأخيرا ننبه إلى أن ترجمة محمد أسد عفا الله عنه للقرآن الكريم ، وقد سماها " رسالة القرآن " تشتمل على العديد من الأخطاء في الترجمة ، التي سببها التأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم ، والأشنع أنها تشتمل على تعليقات في الهامش ، فيها العديد من الأفكار التأويلية المغرقة في التأويل الباطني الباطل ، مثل إنكار كون قصة أمر إبليس بالسجود لآدم حقيقية ، وإنكار التفاصيل الواردة في نعيم الجنة ، وتأويل الجن بالقوى الطبيعية ، وتأويل معجزات الأنبياء ، رغم أنه في ترجمته لجزء من " صحيح البخاري " لم يقع في بعض هذه التأويلات ، ولم يعلق بإخراج الألفاظ عن ظواهرها . الأمر الذي يستدعي وقوفا جادا لدراسة نتاج محمد أسد، وقراءته قراءة متأنية وفاحصة ، الأمر الذي فعله الدكتور إبراهيم عوض في بحث مطول محرر ومنشور على شبكة الإنترنت بعنوان : " فكر مـحمـد أسد ( ليوبولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون ".
والله أعلم .
تعليق