الحمد لله.
علماء الحنفية على قسمين :
القسم الأول :
من كان شديد التعصب للماتريدية أو للصوفية ، فوقف موقفا معاديا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فهؤلاء كلامهم في شيخ الإسلام ابن تيمية لا قيمة له عند أهل الفقه ، فقد جرت بين أهل العلم قاعدة : أن أهل العلم لا يقبل قول بعضهم في بعض إلا ببيّنة . كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :
" والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته ، وثبتت في العلم إمامته ، وبانت ثقته ، وبالعلم عنايته لم يُلتفت فيه إلى قول أحد ، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحته ، على طريق الشهادات ، والعمل فيها ، من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله ، لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة ، وسلامته من ذلك كله ، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر " .
انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " ( 2 / 1093 – 1094 ) .
وهؤلاء في طعنهم في شيخ الإسلام ابن تيمية ليس لهم بينة ولا حجة أصلا ، إلا أنه خالفهم في آرائهم ، والواجب عند الاختلاف والتنازع في الآراء : أن يعرض قول المختلفين على نصوص الشرع فمن كان الحق معه فهو أولى به ، كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) النساء / 59 .
قال القرطبي رحمه الله تعالى :
" قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ) أي : تجادلتم واختلفتم ...
( فِي شَيْءٍ ) أي : من أمر دينكم . ( فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) أي : ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله ، بالسؤال في حياته ، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة ، وهو الصحيح . ومن لم ير هذا اختل إيمانه ؛ لقوله تعالى : ( إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " ( 6 / 433 ) .
القسم الثاني : أهل العلم
والإنصاف ؛ فهؤلاء ، رغم اختلافهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية ، إلا أنهم كانوا
معترفين بفضله وعلمه .
ومما وقفنا عليه من ثنائهم واعترافهم بعلمه نذكر الآتي :
1- شمس الدين بن الحريري الحنفي رحمه الله تعالى (توفي سنة 728ه ، وهي السنة التي
توفي فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله) :
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمرو عثمان
بن أبي الحسن بن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي ، ولد سنة ثلاث وخمسين ، وسمع الحديث
واشتغل ، وقرأ " الهداية " ، وكان فقيها جيدا ، ودَرَّس بأماكن كثيرة بدمشق ، ثم
ولي القضاء بها ، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية ، فباشر بها مدة طويلة ، محفوظ
العرض ، لا يقبل من أحد هدية ، ولا تأخذه في الحكم لومة لائم .
وكان يقول : إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن ؟ وقال لبعض أصحابه: تحب الشيخ
تقي الدين ؟ قال : نعم . قال : والله لقد أحببت شيئا مليحا !!
توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة " .
انتهى من " البداية والنهاية ؛ طبعة دار هجر" ( 18 / 306 – 307 ) .
2- بدر الدين العيني رحمه الله تعالى ، وهو من أشهر علماء الحنفية واشتهر بكتابيه "
البناية شرح الهداية " و" عمدة القاري شرح صحيح البخاري " :
وثناء العيني رحمه الله تعالى على شيخ الإسلام ابن تيمية يمكن أن نقسمه على ثلاثة
أوجه :
الوجه الأول : بدر الدين العيني في كتابه " عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان " كان
إذا جاء ذكر ابن تيمية يصفه بأوصاف تدل على اعترافه بعلمه وفضله ، ومن ذلك :
قال رحمه الله تعالى في حوادث سنة ( 667 هـ ) :
" ومنها : أن أهل حران خرجوا منها وقدموا الشام ، وكان فيهم الشيخ الإمام العلامة
تقي الدين ابن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين ، وأخواه زين الدين عبد الرحمن ، وشرف
الدين عبد الله وهما أصغر منه " انتهى من " عقد الجمان : عصر سلاطين المماليك" (2 /
51).
وقال العيني رحمه الله تعالى في حوادث ( 683 هـ ) :
" ومنها : أن الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية دَرَّس بدار
الحديث السكرية التي بالقصاعين ، وذلك في يوم الاثنين ثامن المحرم من هذه السنة ،
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي الشافعي ، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ
الشافعية ، والشيخ زين الدين بن المرحل ، وزين الدين بن المنجى الحنبلي ، وكان درسا
هائلا ، وجلس الشيخ تقى الدين أيضا يوم الجمعة عاشر صفر في الجامع الأموي بعد
الصلاة على منبر هيء له لتفسير القرآن ، فابتدأ من أوله ، فكان يجتمع عنده خلق كثير
والجم الغفير ، واستمر في ذلك مدة سنين متطاولة على هذا المنوال " .
انتهى من " عقد الجمان : عصر سلاطين المماليك " ( 2 / 330 - 331 ) .
وقال رحمه الله تعالى عمن توفي في سنة ( 694 هـ ) :
" الشيخ الإمام العلامة الخطيب المدرس المفتي القاضي شرف الدين أحمد ابن الشيخ جمال
الدين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقدسي الشافعي .
ولد سنة ثنتين وعشرين وستمائة ، وتوفى يوم الأحد السابع عشر من رمضان منها ، ودفن
بمقابر باب كيسان عند والده وأخيه ، سمع الكثير ، وكتب حسنا ، وصنف فأجاد وأفاد ،
وكان مدرس الغزالية ودار الحديث النورية مع الخطابة ، ودرس في وقت بالشامية
البرانية ، وأذن لجماعة من الفضلاء في الإفتاء منهم الشيخ الإمام أبو العباس ابن
تيمية ، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت لابن تيمية في الإفتاء " .
انتهى من "عقد الجمان : عصر سلاطين المماليك" (3 / 185) .
وقال العيني رحمه الله تعالى في حوادث (699 هـ) :
" واجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية ، واتفقوا على المسير إليه – أي
إلى قائد المغول قازان لما قدم بجيشه الشام - لتلقيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق ،
فتوجهوا يوم الاثنين الثالث من ربيع الآخر ، فاجتمعوا به عند النبك ، وكلمه الشيخ
ابن تيمية كلاماً قوياً فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين " .
انتهى من " عقد الجمان : عصر سلاطين المماليك " ( 4 / 29 – 30 ) .
الوجه الثاني : مدحه لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ومن ذلك أن ابن ناصر الدين الدمشقي
رحمه الله تعالى ألف كتابا في الرد على من طعن في شيخ الإسلام ابن تيمية وسمى كتابه
:" الرد الوافر على من زعم : بأن من سمّى ابن تيمية " شيخ الإسلام " كافر " .
وقد أثنى الشيخ بدر الدين العيني رحمه الله تعالى على هذا الكتاب ومما قاله :
" ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية من شُمّ
عرانين الأفاضل ، ومن جم براهين الأماثل ... وهو الذاب عن الدين طعن الزنادقة
والملحدين ، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين ، وللمأثورات من الصحابة
والتابعين ... وقد سارت تصانيفه في الآفاق ، وليس فيها شيء مما يدل على الزيغ
والشقاق ، ولم يكن بحثه فيما صدر عنه في مسألة الزيارة والطلاق : إلا عن اجتهاد
سائغ بالاتفاق ، والمجتهد في الحالتين مأجور مثاب ، وليس فيه شيء مما يلام أو يعاب
، ولكن حملهم على ذلك حسدهم الظاهر ، وكيدهم الباهر ... وهو الإمام الفاضل البارع
التقي النقي الوارع الفارس في علمي الحديث والتفسير ، والفقه والأصولين بالتقرير
والتحرير ، والسيف الصارم على المبتدعين ، والحبر القائم بأمور الدين ، والأمّار
بالمعروف والنهّاء عن المنكر ، ذو همة وشجاعة وإقدام فيما يروع ويزجر ، كثير الذكر
والصوم والصلاة والعبادة ... " انتهى من " الرد الوافر " ( ص 261 – 262 ) .
الوجه الثالث : اعتنى بدر الدين العيني بالنقل عن ابن تيمية في كتابيه " البناية
شرح الهداية " وكذا " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " وهذا يدل على اعترافه
بالمكانة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية .
3- الملا علي القاري رحمه الله تعالى :
دافع الملا علي القاري عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ورد التهم
الموجهة إليهما ومما جاء في دفاعه ذلك قوله رحمه الله تعالى :
" ومن طالع شرح منازل السائرين – أي مدراج السالكين لابن القيم - ، تبين له أنهما –
أي ابن تيمية وابن القيم - كانا من أكابر أهل السنة والجماعة ، ومن أولياء هذه
الأمة ... " .
انتهى من" مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ؛ طبعة دار الفكر" ( 8 / 148) ، و "
جمع الوسائل في شرح الشمائل " ( 1 / 168 ) .
4- المرتضى الزبيدي الحنفي رحمه الله تعالى صاحب " تاج العروس من جواهر القاموس "
وكتاب " عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبى حنيفة " :
كان ينقل رحمه الله تعالى في كتبه عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، ووصفه بالعلامة وبشيخ
الإسلام في مواضع من كتبه ؛ ومن ذلك قوله :
" والعلامة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحنبلي المعروف بابن تيمية وذووه ،
مُحَدِّثون مشهورون " انتهى من " تاج العروس " ( 31 / 351 ) .
4- العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى .
ففي حاشيته الشهيرة " رد المحتار على الدر المختار " ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى
في عدة مواضع واصفا إياه بالحافظ ، وفي أحدها بشيخ الإسلام حيث قال :
" ورأيت في كتاب الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي ما نصه : ... "
انتهى من " رد المحتار على الدر المختار " ؛ طبعة دار عالم الكتب ( 6 / 345 ) .
ثم نقل عنه قولا نسبه للحنفية ، فعلق عليه ابن عابدين رحمه الله تعالى بقوله : " لم
أر من صرح به عندنا ، لكنه نقله عن مذهبنا ، وهو – أي ابن تيمية - ثبت ؛ فيقبل " .
انتهى من " رد المحتار على الدر المختار " ( 6 / 346 ) .
وهذا التصرف من العلامة ابن عابدين غاية في الدلالة على اعترافه بعلم وفضل شيخ
الإسلام ابن تيمية ؛ حيث اعتمد عليه في تقرير رأي الحنفية في المسألة ، ووصفه بأنه
: ثبت .
هذا ما وقفنا عليه في هذا المقام ، ومن فتّش أكثر قد يجد أكثر .
والله أعلم .
تعليق