الحمد لله.
أولا :
الواقع أن المتأمل في هذه "الشبهة" ، أو لِنَقُل : في هذه "التهمة" ، يجد أن التدليل على بطلانها ، ومنافاتها لحال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وجهوده ، ومعارفه هي أشبه شيء بقول المتنبي :
وليس يصِحُّ في الأذهانِ شيءُ ... إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ !!
وإنما مثل من يحتفي بهذه الأقوال ، والروايات ، في جانب ما استفاض وعرف عن شيخ الإسلام وحياته ، ووجده الناس من تصانيفه ومؤلفاته ، مثله كمثل من يتعلق برواية غريبة شاذة ، وحيدة فاذة ، تخالف ما تواتر من الأخبار ، واستفاض من الروايات والآثار !!
روى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التيمي ، رحمه الله ، قَالَ: " كَانُوا يَكْرَهُونَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامَ "
انتهى من "المحدث الفاصل" ، الرامهرمزي (565) .
وقال أبو يُوسُفَ: " مَنْ تَتَبَّعَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ " .
انتهى من "المحدث الفاصل" (562) ، "الكفاية" للخطيب البغدادي (142) .
ولولا أن مثل هذه الروايات قد سيقت في مصادر تاريخية ، لها اعتبارها ، ومن الناس
من قد يصدر عنها ، أو يغتر بما فيها ؛ لكان الإعراض عن الاشتغال بها أولى ، وأدعى
لرفضها ؛ لكن : كيف ، وقد قيل ؟!! و" لكُلِّ ساقِطَةٍ لاقِطَةٌ " !!
ثانيا :
أكثر ما غر من نقل مثل هذا الكلام ، ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمته له
من "الدرر الكامنة" (1/148) ، في جملة حكايته لمحنته ، وحاله مع خصومه :
" وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر ، وبالغ في أذية
الحنابلة ، واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم ،
فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطه بذلك ، واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق
وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية ، وكتب في حقه محضرا بالثناء عليه
بالعلم والفهم ، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلاثمائة سنة ما
رأى الناس مثله ، فبلغ ذلك ابن مخلوف ، فسعى في عزل ابن الحريري، فعزل .. ، وتعصب
سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في
إخراجه ، فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطا وأن يرجع عن بعض العقيدة ، فأرسلوا
إليه مرات ، فامتنع من الحضور إليهم ، واستمر .
ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل ، فأخرج في ربيع الأول
في الثالث وعشرين منه ، وأحضر إلى القلعة .
ووقع البحث مع بعض الفقهاء ، فكتب عليه محضر بأنه قال : أنا أشعري .
ثم وجد خطه بما نصه : الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله ، وهو صفة من صفات
ذاته القديمة ، وهو غير مخلوق ، وليس بحرف ولا صوت ، وأن قوله ( الرحمن على العرش
استوى ) ، ليس على ظاهره ، ولا أعلم كنه المراد به ، بل لا يعلمه إلا الله ، والقول
في النزول كالقول في الاستواء .
وكتبه : أحمد بن تيمية .
ثم أشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختارا .
وذلك في خامس عشري ربيع الأول سنة 707 ، وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم ،
وسكن الحال ، وأفرج عنه وسكن القاهرة .." انتهى .
وأول ما يقال في مناقشة مثل هذا الكلام :
أننا أمام حكاية لحال سجين ، في حكم خصومه ، فهم الذي يحكمون فيه ، وهم الذين
يشهدون ويحضرون ، وهم الذين ينقلون عنه ما قال ، أو يذكرون أنه قاله .. ، وهو في
ذلك كله تحت قهرهم وسلطانهم ، حتى قال الذهبي ، ثم ابن عبد الهادي :
" ثم بقي سنة ونصفا ، وأخرج ، وكتب لهم ألفاظا اقترحوها عليه ، وهدد وتوعد
بالقتل ، إن لم يكتبها " انتهى من "الدرة اليتيمة- تكملة الجامع" للذهبي (46) ،
"العقود الدرية" لابن عبد الهادي (252) .
وقد تتبع الشيخان المحققان : محمد عزيز شمس ، علي العمران : المصادر التي تكلمت عن
هذه المحنة ، وما حصل فيها ، وقارنا بين ما ورد في هذه المصادر حول هذه المسألة ،
ثم قالا :
فتبين من هذا العرض أن :
من المؤرخين من لم يذكر القصة ولا المكتوب أصلا .
ومنهم من أشار إليها إشارة فقط ، دون تفصيل للكتاب الذي كتبه ، مع ذكرهم ما صاحب
كتابته تلك من التخويف والتهديد بالقتل .
ومنهم من فصلها وذكر نصَّ المكتوب ، لكن دون ذكرهم لما صاحب ذلك من تهديد وتخويف
بالقتل !!
وعلى هذا يمكننا القول : أن (ابن المعلم) و (النويري) قد انفردا من بين معاصري
الشيخ بقضية رجوعه ، وسياق ما كتبه ، وتابعهما على ذلك بعض المتأخرين .
وعليه فيمكن تجاه هذه القضية أن تتخذ أحد المواقف التالية :
الأول : أن نكذب كل ما ذكره المؤرخون جملة وتفصيلا، ونقول : إن شيئا من ذلك لم يكن
.
الثاني : أن نثبت أصل القصة ، دون إثبات أي رجوع عن العقيدة ، ولا المكتوب الذي فيه
المخالفة الصريحة لما دعا إليه الشيخ ، قبل هذا التاريخ وبعده ( أي 707هـ) .
الثالث : أن نثبت جميع ما انفرد به (ابن المعلم) و (النويري) من الرجوع والكتابة !!
فالأول : دفع بالصدر . والثالث: إثبات للمنفردات والشواذ، وتقديمها على الأشهر
والأكثر.
والذي يثبت عند النقد ويترجح هو : الموقف الثاني : أن الشيخ كتب لهم عبارات مجملة -
بعد التهديد والتخويف - لكن ليس فيها رجوع عن عقيدته ، ولا انتحال لعقيدة باطلة ،
ولا كتاب بذلك كله ، وذلك لأسباب منها :
أن هذا الكتاب مخالف لعقيدة الشيخ ، التي كان يدعو إليها ويناضل عنها طوال حياته ،
قبل هذه الحادثه وبعدها .
أنه لا يوجد في كتاباته ومؤلفاته أي أثر لهذا الرجوع ، أو إشارة إلى هذا ، أو
الكتاب ، أو إلى ما تضمنه ، ولو كان قد حصل منه شيء من الكتابة لهم بذلك ، لكان
حقيقا بعد ظهوره على أعدائه - على الأقل - وتمكنه منهم ، بعد انكسار الجاشنكير،
ورجوع الناصر، أن يطلب هذا الكتاب ، أو ينفيه عن نفسه .
أن الشيخ رحمه الله قد حصلت له مضايقات كثيرة في مسائل عديدة ، قبل هذا التاريخ
وبعده، سجن من أجلها وعوتب، فلم يعرف عنه أنه رجع عن شيء منها، بل غاية أمره أن
يسكت عن الإفتاء بها مدة ، ثم يعود إلى ذلك ويقول : لا يسعني كتمان العلم ، كما في
مسالة الطلاق " العقود " ( ص325) ؛ فكيف يكتب هذه المرة ما يناقض عقيدة أهل السنة ،
ويقرر مذهب أهل البدع ؟! ، وما شأن الخصوم ، عند الشيخ رحمه الله ، إلا كما وصفهم
هو بنفسه، لما قيل له : يا سيدي قد أكثر الناس عليك ؟! فقال : إن هم إلا كالذباب ،
ورفع كفه إلى فيه ونفخ فيه . "العقود " (ص268) ، ووصف الحافظ الذهبي ثبات الشيخ
أمام خصومه فقال : " حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام ، قياما لا مزيد عليه
... وهو ثابت ، لا يداهن ولا يحابي ، بل يقول الحق المرّ الذي أداه إليه اجتهاده ،
وحِدّة ذهنه ، وسعة دائرته في السنن والأقوال" ، وقال أيضا: " قد سجن غير مرة ليفتر
عن خصومه ، ويقصر عن بسط لسانه وقلمه ، وهو لا يرجع ولا يلوي على ناصح إلى أن توفي
" .
ومما يفت في عضد هذه الأكذوبة : أن جماعة طلبوا من الشيخ أن يقول : إن هذا الاعتقاد
الذي كتبه وناظر من أجله الخصوم ، هو اعتقاد أحمد بن حنبل - يعني: وهو مذهب متبوع ،
فلا يعترض عليه - فلا يرضى الشيخ بهذا، بل يصدع بأن هذا هو معتقد سلف الأمة جميعهم
، وليس لأحمد اختصاص بذلك. " العقود " ( ص 218-219،240-241) .
إن أقصى ما يمكن قوله في كتابة الشيخ لهم : إنها كتابة إجمالية في مسائل العقيدة،
بما لا ينافي الحق ولا الصواب، وانظر نماذج لبعض ما كان يستعمله الشيخ مع خصومه
ليدحرهم ويكبتهم ، وفي أنفسهم ما فيها : " العقود " (ص 212 ، 215 ، 240-241) . ولم
يستطع الأعداء أن يجبروه على كتابة أكثر من ذلك الإجمال ، ثم وجدوا أنه لا فائدة في
إشاعة ذلك المكتوب عنه بالوجه الذي كتبه ، فزوّروا عليه كلاما، ثم زوروا عليه
توقيعه ، وأشهدوا عليه جماعة ، ليتم لهم ما أرادوا ، وقضية الكذب والتقول والتزوير
على الشيخ باتت من أشهر خصال أعدائه . انظر ذلك في مواضع كثيرة في " العقود "
(ص200، 204 ، 207 ، 209 ، 328) .
قال البرزالي في الموضع الأول عن خصومه : "وحرفوا الكلام ، وكذبوا الكذب الفاحش".
وقال في الموضع الثاني : " واختلفت نقول المخالفين للمجلس ، وحرفوه ، ووضعوا مقالة
الشيخ على غير موضعها ، وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته ،
فالله المستعان " .
وقال الشيخ نفسه ـ في الموضع الثالث : " وكان قد بلغني أنه زُوِّر عليّ كتاب إلى
الأمير ركن الدين الجاشنكير، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ، ولم أعلم بحقيقته ، لكن علمت
أن هذا مكذوب" .
وقال الشيخ في الموضع الرابع : " أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي
غير مرة .. " ...
ومما يؤيد كذب هذه الأخلوقة : أن الكتاب الذي زعموا : كتب سنة 707 هـ ، فكيف يصح
هذا ؛ وهم يطالبونه في سنة 708هـ بكتابة شيء بخطه في هذه المسألة نفسها ؟! فإنه لما
جاءه المشايخ التدامرة نحو سنة 708هـ وقالوا : " يا سيدي ، قد حمّلونا كلاما نقوله
لك ، وحلّفونا أنه ما يطلع عليه غيرنا : أن تنـزل لهم عن مسألة العرش ، ومسألة
القرآن ، ونأخذ خطك بذلك ، نوقف عليه السلطان ونقول له : هذا الذي حبسنا ابن تيمية
عليه ، قد رجع عنه ، ونقطع نحن الورقة " ، انتهى !! فقال لهم الشيخ : " تدعونني أن
أكتب بخطي : أنه ليس فوق العرش إله يعبد ، ولا في المصاحف قرآن ، ولا لله في الأرض
كلام ؟! " . ودق بعمامته الأرض ، وقام واقفا ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال : "
اللهم إنـي أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك ، وأن هذا شيء ما أعمله
.." ، ثم دعا عليهم .
ولما قالوا له : " كل هذا يعملونه حتى توافقهم ، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو
حبسك ؟ ، فقال لهم : " أنا إن قتلت؛ كانت لي شهادة، وإن نفوني؛ كانت لي هجرة.." ؛
فيئسوا منه ، وانصرفوا !!
[ ذكره إبراهيم الغياني ، خادم شيخ الإسلام – الجامع 147-148] .
فلو كان لهم كتاب بخطه في تلك المسائل - كما زعموا - لم يطلبوا منه أن يكتب لهم
بخطه كتابا آخر .
فخلصنا أنه لم يكن معهم في المرة الأولى، إلا الكذب والتزوير والتحريف !! "
انظر : "الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (39-47) .
على أن شيخ الإسلام ، قد حكى بنفسه ، طرفا من هذه المحنة التي اتصلت نحوا من ثمانية
عشر شهرا ، وما كان منه لأعدائه وخصومه فيها ، وما طلبوه منه ، وما أجابهم به ،
وذلك في أول كتابه الذي صنفه في الرد على مقالة الأشاعرة ، في مسألة "الكلام" ،
وسماه : "التسعينية" ، قال رحمه الله بعد خطبة الكتاب :
" أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ
وَسَبْعُمِائَةٍ , جَاءَ أَمِيرَانِ رَسُولَانِ مِنْ عِنْدِ الْمَلَإِ
الْمُجْتَمِعِينَ ، مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ , وَذَكَرَا
رِسَالَةً مِنْ عِنْدِ الْأُمَرَاءِ , مَضْمُونُهَا : طَلَبُ الْحُضُورِ
وَمُخَاطَبَةُ الْقُضَاةِ ، لِتَخْرُجَ وَتَنْفَصِلَ الْقَضِيَّةُ , وَأَنَّ
الْمَطْلُوبَ خُرُوجُك , وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ ؟
فَقُلْت : سَلِّمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ ، وَقُلْ لَهُمْ : لَكُمْ سَنَةٌ ، وَقَبْلَ
السَّنَةِ مُدَّةٌ أُخْرَى ، تَسْمَعُونَ كَلَامَ الْخُصُومِ ، اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ ، وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي كَلِمَةً وَاحِدَةً ؛
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ , فَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا أَوْ عَدُوًّا آخَرَ لِلْإِسْلَامِ وَلِدَوْلَتِكُمْ ، لَمَا جَازَ
أَنْ تَحْكُمُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَسْمَعُوا كَلَامَهُ , وَأَنْتُمْ قَدْ
سَمِعْتُمْ كَلَامَ الْخُصُومِ وَحْدَهُمْ فِي مَجَالِسَ كَثِيرَةٍ , فَاسْمَعُوا
كَلَامِي وَحْدِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَبَعْدَ ذَلِكَ نَجْتَمِعُ وَنَتَخَاطَبُ
بِحُضُورِكُمْ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
فِي قَوْلِهِ : ( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ
اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ؟!
فَطَلَبَ الرَّسُولَانِ أَنْ أَكْتُبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ ، فَكَتَبْته ،
فَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا , وَقَالَا : الْمَطْلُوبُ حُضُورُك لِتُخَاطِبَك
الْقُضَاةُ بِكَلِمَتَيْنِ ، وَتَنْفَصِلوا ؟
وَكَانَ فِي أَوَائِلِ النِّصْفِ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ ، جَاءَنَا هَذَانِ
الرَّسُولَانِ بِوَرَقَةٍ كَتَبَهَا لَهُمْ الْمُحَكَّمُ مِنْ الْقُضَاةِ , وَهِيَ
طَوِيلَةٌ ، طَلَبْتُ مِنْهُمْ نُسَخًا ، فَلَمْ يوافقوا ، وتأملتها ، فوجدتها
مكذوبة علي ، إلا كلمة واحدة : مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً ، وأن كلامه
حرف وصوت ، قائم به ، بلا تكييف وَلَا تَشْبِيهَ .
قُلْتُ : ليس هذا فِي كلامي ولا خَطِّي .
وَخَاطَبَنِي بِخِطَابٍ فِيهِ طُولٌ ، قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَنَدِمُوا عَلَى كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ ، وَكَتَبُوا هَذِهِ .
فَقُلْت : أَنَا لَا أَحْضُرُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ فِيّ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ،
وَبِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَيَفْعَلُ بِي مَا لَا تَسْتَحِلُّهُ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى , كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ .
وَقُلْت لِلرَّسُولِ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحُضُورِكُمْ ؛ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَمْكُرُوا بِي كَمَا مَكَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي ؛ هَذَا لَا أُجِيبُ إلَيْهِ
.
وَلَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْت قَوْلًا بَاطِلًا ، فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا
أَنْكَرَهُ مِنْ كَلَامِي ، وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ , وَأَنَا أَكْتُبُ جَوَابِي مَعَ
كَلَامِهِ , وَيُعْرَضُ كَلَامِي وَكَلَامُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرْقِ
وَالْغَرْبِ , فَقَدْ قُلْت هَذَا بِالشَّامِ ، وَأَنَا قَائِلُهُ هُنَا , وَهَذِهِ
عَقِيدَتِي الَّتِي بَحَثْت بِالشَّامِ ، بِحَضْرَةِ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِهَا
وَعُلَمَائِهَا . وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ النُّسْخَةَ الَّتِي
قُرِئَتْ ، وَأَخْبَرَكُمْ بِصُورَةِ مَا جَرَى , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ
التَّقْصِيرِ فِي حَقِّي , وَالْعُدْوَانِ ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْخُصُومِ مَا
قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ , فَانْظُرُوا النُّسْخَةَ الَّتِي
عِنْدَكُمْ . وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدِي نُسْخَةٌ أُخْرَى منهَا ، فَقُلْت : خُذْ
هَذِهِ النُّسْخَةَ ، فهي اعْتِقَادِي ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا
فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ ، وَحُجَّتَهُ ، لِأَكْتُبَ جَوَابِي ؟
فَأَخَذَا الْعَقِيدَةَ وَذَهَبَا ، ثُمَّ عَادَا وَمَعَهُمَا وَرَقَةٌ لَمْ
يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِي ، بَلْ قَدْ أَنْشَئُوا
فِيهَا كَلَامًا طَلَبُوهُ . وَذَكَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا وَرَقَةً
ثُمَّ قَطَعُوهَا ثُمَّ كَتَبُوا هَذِهِ ، وَلَفْظُهَا : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ
أَنْ يَعْتَقِدَهُ : أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ، وَأَنْ
لَا يَقُولَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ , بَلْ هُوَ
مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ , وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ
بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ
لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ , وَلَا يَكْتُبُ بِهَا
إلَى الْبِلَادِ , وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ؟
فَلَمَّا أَرَانِي الْوَرَقَةَ ، كَتَبْتُ جَوَابَهَا فِيهَا مُرْتَجِلًا ، مَعَ
اسْتِعْجَالِ الرَّسُولِ :
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ
يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ
لِهَذَا اللَّفْظِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا :
بِدْعَةٌ , وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ,
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ .
فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ , أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ
رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ , وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا
الْعَدَمُ الْمَحْضُ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
وَأَئِمَّتِهَا .
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ , وَلَا
يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ ؛ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي
كَلَامِي , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ ؟
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَا يَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ
وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ " ؛ فَلَيْسَ فِي
كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ ؛ بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ
الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَالصَّوْتَ قَائِمٌ بِهِ , بِدْعَةٌ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ
مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا
وَلَا هَذَا , وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ , بَلْ فِي
كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً
حِسِّيَّةً " ؛ فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي ؛ بَلْ فِي كَلَامِي
إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدَعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ ,
مِثْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ , فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا
بِدْعَةٌ .
فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ ، أَنَّهُ لَيْسَ
مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي
الصَّحِيحَةِ فَهَذَا حَقٌّ .
وَإِنْ أَرَادَ : أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ ,
فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ
الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ
إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ صِفْرًا ) ؛ وَإِذَا
سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ
وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ " فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ قَطُّ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ : بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ
الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ) , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( إنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) الْآيَةَ , فَلَا
يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
فَأَخَذَا الْجَوَابَ ، وَذَهَبَا فَأَطَالَا ، الْغَيْبَةَ , ثُمَّ رَجَعَا وَلَمْ
يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ ، إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ !!
فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ ، وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ : يَا
مُبَدِّلِينَ ، يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ ، يَا زَنَادِقَةً , وَكَلَامًا
آخَرَ كَثِيرًا !!
ثُمَّ قُمْتُ ، وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ ، وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي .
وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي
طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ , وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ
تَبْدِيلِ الدِّينِ , واتباعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ
مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ..." انتهى من "التسعينية" (1/109-119) .
فبهذا يتبين بطلان هذه الفرية التي تعلق به من لم يحقق الأمر ، ولم يفهم شيئا عن
سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ومنهجه .
وينظر أيضا ـ للفائدة ـ : "مجموع الفتاوى" (3/160) وما بعدها ، و"العقود الدرية"
لابن عبد الهادي (253) وما بعدها ، ط عالم الفوائد .
والله أعلم .
تعليق