الحمد لله.
تغيير العلم الحديث الأحكامَ الشرعية الثابتة سؤالٌ مغالط ، لا يمكن أن يُتصور أو يقع ؛ ومتناقض في أصله ؛ ذلك أن حقائق الكون وحقائق الشرع مصدرُهما واحد ، وهو الخالق جل وعلا ، وحينئذ لا يمكن أن يقع بينهما التناقض بحيث يرفع أحدهما الآخر أو يلغيه ، وكل من يعتقد خلاف ذلك إنما أُتي من ضعف بحثه وتحريه ، وأُتي من خطئه في تصور العلم الحديث ، أو خطئه في الوصول إلى الحكم الشرعي .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما - سواء كانا عقليين أو سمعيين ، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً - وهذا متفق عليه بين العقلاء ؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة ، وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان ، وأحدهما يناقض مدلول الآخر ، للزم الجمع بين النقيضين ، وهو محال .
بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية ، فلا بد من أن يكون الدليلان ، أو أحدهما غير قطعي ، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين ، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين : فيمتنع تعارض الدليلين" انتهى من " درء تعارض العقل والنقل " (1/79) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" تأملت ، ووجدت : ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمعٌ [السمع هو الكتاب والسنة] قط ، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع ، أو دلالة ضعيفة ، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح ، فكيف إذا خالفه صريح المعقول !
ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول ، بل بمحارات العقول ، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه ، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته " .
انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (1/147) .
ولهذا ؛ فالفرضية الواردة في
السؤال غير واقعية ؛ لأن الحكم الشرعي الثابت لا يمكن أن يأتي العقل أو العلم بخطئه
ومناقضته ، بل يأتي كل منهما مؤكدا للآخر .
قال ابن أمير الحاج رحمه الله تعالى :
" لا مانع في الشرع والعقل من تعاضد الأدلة وتأكد بعضها ببعض ... وقد ملأ السلف
كتبهم بالتمسك بالنص والمعقول في حكم واحد ، ولم ينقل عن أحد في ذلك نكير ، فكان
إجماعا على جوازه " انتهى من " التقرير والتحبير " ( 3 / 178 ) .
والمثال الذي ذكرته في سؤالك غير واقعي أيضا ، فالدم ثبتت نجاسته بالأدلة والإجماع
، كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (114018)
.
ثم ، من قال : إن مناط الحكم على العين بالنجاسة ، أو التحريم : هو مكوناتها
الأولية ، التي يكشف عنها المجهر ؟
فالنجاسات المغلظة ، إذا حللناها : ماذا تظن أن تعطينا ؟
فإن مناط الحكم بالطهارة أو النجاسة هو للدليل الشرعي الذي يتعبدنا الله عز وجل به
وباتباعه ، وليس المناط اكتشاف المكونات إن كانت مستقذرة أم غير مستقذرة ،
فالاستقذار لا يستلزم النجاسة ، ألا ترى أن الشريعة حكمت بطهارة مخاط الأنف ومني
الإنسان وقذى العين ، رغم كونها من المستقذرات عرفا وعادة ، وأيضا رجح المحققون من
العلماء طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه من الحيوانات رغم كونه مستقذرا ، وأيضا حكمت
الشريعة بنجاسة لحم الخنزير رغم عدم استقذاره من جهة كثير من الناس !!
وهذا لا ينفي إمكان الإفادة
من العلوم الحديثة في جوانب مهمة من الفتاوى الشرعية ، وذلك عبر البحث في تحقيق
المناط الذي جاءت به الشريعة ، كالبحث في مضار بعض المواد وتعاطيها من خلال أدوات
العلم الحديث ، فإن تبين الضرر تأكدنا من تحقق مناطه فأفتينا بالمنع والتحريم .
ومثله البحث في المواد المسكرة مثلا ، من خلال المختبرات الفنية ، فإن تبين إسكار
الكثير من الشراب حرم القليل منه .
ومثله أيضا الاستعانة بنتائج العلوم الحديثة في فهم شرح العلماء لبعض الأحاديث
النبوية ، كما تقرر في فهم حديث ( لا عدوى ) متفق عليه ، وأن المقصود به نفي العدوى
التي كان يؤمن بها أهل الجاهلية ، والتي تنتقل بذاتها ، ويعدونها المسبب وليست مجرد
سبب ، وأما كون العدوى سببا بإذن الله لانتقال المرض فهذا يؤكده الطب الحديث ،
وبينه العلماء أيضا في شرح الحديث الشريف.
هذه بعض الجوانب المهمة التي يمكن الإفادة فيها من العلوم الحديثة في الفتاوى
الشرعية الاجتهادية.
والله أعلم .
تعليق