الحمد لله.
إذا أردت أن تطلب علم الفقه من بابه الصحيح ، وطلبت نصيحتنا التي نخلصها لك بإذن الله ، فدع عنك جميع الكتب التي أوردتها في السؤال ، ليس لقلة فائدتها العلمية ، بل فيها من الخير الكثير بإذن الله ، ولكن لأنها لا تسير على " خطة " العلم التي سار عليها فقهاء الأمة على تطاول القرون السابقة . وهذه الخطة تعتمد دراسة الفقه من المتون الفقهية ضمن أحد المذاهب الأربعة المعتبرة ، مع شروحه وتحريراته والحواشي عليه .
تُعينُ هذه المنهجية طالب العلم على استحضار الفروع تحت أصولها ، وجمع النظير إلى نظيره ، والتفرقة بين المختلفين ، وتعوده القياس الصحيح ، وتبين له القياس الفاسد ، وترتب مسائل الفقه في عقله بترتيب منهجي محكم ، وتجمع في ثناياها آلاف المسائل التي تغطي معظم ما يحتاج إليه الناس في معادهم ومعاشهم ، كل ذلك مع الدليل والتعليل .
وتوفر هذه المنهجية لطالب العلم أيضا فرصة التوسع في البحث والتفتيش في كتب المذهب الموسعة الأخرى ، وفي كتب الفروع المشابهة ، ليجد الحكم الشرعي فيما أشكل عليه متسقا مع المتن الفقهي الذي درسه ، ولا يخرج عن مسالك الاستدلال التي تعود عليها ، وتَشَكَّلَ بناؤه الفقهي على منوالها .
كما أن أفضل ما في هذه المنهجية ارتباط كتب الفقه فيها بكتب " أصول الفقه " التي يؤلفها فقهاء المذهب أنفسهم ، وهو علم لابد منه لطالب العلم ، كي يتعرف على أدلة الفقه الشرعية ، وكيفية استفادة الأحكام منها ، ويتمكن من فهم وجه الأحكام الفقهية الفرعية التي قرأها في المتون وشروحها ، وحينئذ تكتمل عقلية الطالب وبناؤه الفقهي ، وينضج فكره في فهم إحدى المدارس الأربعة المعتبرة ، وينطلق من هذا الفهم إلى رحاب أوسع من رحاب " الشريعة الغراء "، التي تجمع أطياف المذاهب كلها في أطر المقاصد الشرعية ، والقواعد الفقهية ، وحِكَم التشريع العامة .
وهو في ذلك كله يستعين بشيخ من أهل الفن ، أو طالب علم متقن ، سبقه في الطلب ، ولو لم يتيسر له إلا سماع الأشرطة والمواد المسجلة ، في تدريس ذلك وشرحه ، فهو طيب نافع ، إن شاء الله .
وهذا ما نشأ عليه فقهاء الإسلام منذ فترة استقرار المذاهب إلى اليوم ، حتى كبار المحققين منهم من أمثال النووي ، والقرافي ، وابن تيمية ، وابن عابدين ، وغيرهم كثير ، كلهم نشؤوا على هذا المنهج العلمي ، وإنما ذكرنا هذه الأمثلة لأئمة من المذاهب الأربعة ، لأنهم كانت لهم اختياراتهم الفقهية خارج إطار المذهب في بعض الأحيان ، ولكن تأسيسهم العلمي ، وبناءهم الفقهي سار على الطريقة التي شرحنا ، حتى كانت مصنفاتهم وكتبهم جامعة بين فقه المذهب ، والفقه المقارن .
يقول العلامة ابن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله :
" اعلم أن للمطالعة وللتعليم طرقا ذكرها العلماء ، وإننا نثبت هنا ما أخذناه بالتجربة ، ثم نذكر بعضا من طرقهم ، لئلا يخلو كتابنا هذا من هذه الفوائد .
إذا تمهد هذا : فاعلم أننا اهتدينا بفضله تعالى أثناء الطلب إلى قاعدة ، وهي أننا كنا نأتي إلى المتن أولا ، فنأخذ منه جملة كافية للدرس ، ثم نشتغل بحل تلك الجملة من غير نظر إلى شرحها ، ونزاولها حتى نظن أننا فهمنا ، ثم نقبل على الشرح فنطالعه المطالعة الأولى امتحانا لفهمنا ، فإن وجدنا فيما فهمناه غلطا صححناه ، ثم أقبلنا على تفهم الشرح على نمط ما فعلناه في المتن . ثم إذا ظننا أننا فهمناه راجعنا حاشيته إن كان له حاشية ، مراجعة امتحان لفكرنا ، فإذا علمنا أننا فهمنا الدرس تركنا الكتاب واشتغلنا بتصوير مسألة في ذهننا ، فحفظناه حفظ فهم وتصور ، لا حفظ تراكيب وألفاظ . ثم نجتهد على أداء معناه بعبارات من عندنا غير ملتزمين تراكيب المؤلف ، ثم نذهب إلى الأستاذ للقراءة ، وهنالك نمتحن فكرنا في حل الدرس ، ونقوِّمُ ما عساه أن يكون به من اعوجاج ، ونوفر الهمة على ما يورده الأستاذ مما هو زائد على المتن والشرح .
وكنا نرى أن من قرأ كتابا واحدا من فن على هذه الطريقة : سهل عليه جميع كتب هذا الفن ، مختصراتها ومطولاتها ، وثبتت قواعده في ذهنه ، وكان الأمر على ذلك ".
انتهى باختصار من " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران " (ص: 489-491).
وقد كان ابن بدران رحمه الله
قد بين خطة جزئية في دراسة الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، ننقلها
هنا للإفادة منها ، حيث يقول :
" وذلك أن موفق الدين (يعني : ابن قدامة رحمه الله) راعى في مؤلفاته أربع طبقات :
فصنف " العمدة " للمبتدئين .
ثم ألف " المقنع " لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين ، فلذلك جعله
عريا عن الدليل والتعليل ، غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ، ليجعل لقارئه مجالا
إلى كد ذهنه ليتمرن على التصحيح .
ثم صنف للمتوسطين " الكافي "، وذكر فيه كثيرا من الأدلة ، لتسمو نفس قارئه إلى درجة
الاجتهاد في المذهب حينما يرى الأدلة ، وترتفع نفسه إلى مناقشتها، ولم يجعلها قضية
مسلمة.
ثم ألف " المغني " لمن ارتقى درجة عن المتوسطين ، وهناك يطلع قارئه على الروايات
وعلى خلاف الأئمة ، وعلى كثير من أدلتهم ، وعلى ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد .
فمن كان فقيه النفس حينئذ مرن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق ، إن كان أهلا
لذلك وتوفرت فيه شروطه ، وإلا بقي على أخذه بالتقليد .
فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع ، وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها ، بل
هي مقاصد أئمتنا الكبار ، كأبي يعلى ، وابن عقيل ، وابن حامد ، وغيرهم قدس الله
أرواحهم " .
انتهى من " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران " (ص: 433) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله السؤال الآتي :
" نرى بعض الطلاب يبدؤون دراستهم في الفقه بفقه الاختلاف ، فهل هذه الطريقة سديدة ،
وهل دراسة الفقه تحتاج إلى تدرج ؟ بينوا لنا في ذلك .
فأجاب بقوله :
" ما معنى فقه الاختلاف ؟ يعني: اختلاف العلماء ، لا ، هذا غلط .
الذي يبدأ بالفقه بكتب الاختلاف فقد ضاع . يضيع بلا شك .
الأحسن أن يركز على مذهب معين ، ويتقن كتبه ، فإذا رسخ الفقه في ذهنه حينئذ ينظر في
كتب الاختلاف ، حتى إذا فتح الله عليه يرجح هذا أو هذا ، أما أن يبدأ بذكر خلاف وهو
ناشئ ، فهذا كالذي ألقى نفسه في اليم وهو لا يعرف السباحة " .
انتهى من " دروس للشيخ العثيمين " (11/ 29، بترقيم الشاملة آليا) .
فإذا تجاوز طالب العلم مرحلة
الدراسة المذهبية هذه ، وتمكن من استحضار المسائل وأدلتها ومآخذها في المذهب ، ملك
دربة قوية في التفقه والتعلم ، تمكنه من الانتقال إلى مرحلة المقارنة ، ودراسة ما
يسميه المعاصرون بـ " الخلاف العالي "، يعنون به " الفقه المقارن "، وهو الذي تعرض
فيه أقوال جميع الفقهاء مع أدلتها والمقارنة بينها ، وهي المرحلة التي ابتنى عليها
كتاب " فقه السنة " للسيد سابق رحمه الله ، لذلك كان الأولى بطالب العلم تأجيل
دراسته لهذا الكتاب ، - وجميع الكتب التي ألفت عليه تحقيقا واختصارا وتهذيبا – إلى
ما بعد المرحلة التأسيسية التي سبق توضيحها .
تنبيه :
هذا الجواب المذكور ، إنما هو في حق طالب العلم ، الذي يريد لنفسه منهجية ملائمة ،
يتدرج بها في مدارج الطلب ، على الطريقة التعليمية التي سلكها أهل العلم ، وليس من
غرضه الوقوف عند كتاب واحد يقرؤه ، بل يريد الاستمرار في طلب العلم حتى يصل فيه إلى
درجة عالية .
أما المسلم العادي ، وعوام المثقفين ، ونحوهم ، ممن يريد أن يحصل ما لا يسعه جهله
من علم ذلك الباب : فإن الذي نختاره له من بين الكتب المذكورة : هو كتاب " الفقه
الميسر" ، الذي أصدرته وزراة الأوقاف ، فهو أقربها مأخذا ، وأيسرها ، مع مراعاته
للقول الراجح في عامة المسائل التي يوردها ، واعتماده على كتب المحققين ، ولا سيما
شروح الشيخ ابن عثيمين ، رحمه الله ، وعنايته بالأدلة ، وترتيب المسائل ، وقرب
المأخذ .
ثم إذا انتهى منه ، وفهمه ، فإن أمكنه أن ينتقل بعد ذلك إلى كتاب "الملخص الفقهي"
للشيخ الفوزان ، مع كثرة المراجعة في كتاب "الشرح الممتع" للشيخ ابن عثيمين ، فهذا
أمر حسن جدا ، وهو يكفيه وزيادة ، إن شاء الله .
وفي هذه المرحلة الثانية ، بعد أن يكون قد درس كتابا أوليا ، ووعى مقاصده : يمكن
الاستفادة من كتاب "فقه السنة" ، والكتب التي دارت حوله .
وأما كتب الشيخ الألباني رحمه الله -على سبيل العموم ، التي ذكرها السائل وغيرها –
فهي كتب هامة ينبغي الحرص على قراءتها والاستفادة منها ، فإنها تمتاز بذكر الأدلة
مع سهولة الأسلوب والعبارة .
لكن "تمام المنة" و "الثمر المستطاب" لم يكملهما الشيخ الألباني ، ولذلك فمع أهمية
الاستفادة منهما ، لكنهما لا يحسن الاكتفاء بهما ، ولا جعلهما الأصل الذي يدور عليه
مذاكرته واهتمامه ، فإنهما لا يغطيان جانبا كبيرا من الأحكام التي يحتاج إليها
المسلم .
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
تعليق