الحمد لله.
ينقل بعض الناس قصة مفادها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يخرج كل صباح إلي خيمة في ضواحي المدينة ، فيدخل على عجوز عمياء كسيرة من الرعية ، فيكنس بيتها، ويصنع طعامها، ويحلب شياهها .
فإذا انتهى رجع إلى المدينة ، فأخذ عمر يتفقد أبا بكر كل صباح أين يذهب ؟
وذات مرة دخل عليها عمر بعد أن خرج أبو بكر .
فقال للمرأة : من أنت؟
قالت : أنا امرأة عمياء كسيرة ، مات زوجي منذ زمن ، ومالنا من عائل بعد الله ، إلا هذا الرجل الذي يدخل علينا .
قال : أتعرفينه ؟
قالت : لا والله ما أعرفه .
قال : ماذا يفعل ؟
قالت : يكنس البيت ، ويحلب شياهنا ، ويصنع طعامنا.
فجلس عمر رضي الله عنه يبكي ".
فهذه القصة لم نجد لها أصلا بهذا التمام ، ولا نعلم أحدا من أهل العلم ذكرها في مناقب الصديق رضي الله عنه .
وقد رويت هذه القصة على وجه آخر ، فروى الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" (30/ 322) من طريق رشدين عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري :
أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل ، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة ، فقال عمر : " أنت هو لعمري " .
وهذا إسناد ضعيف جدا .
- أبو صالح الغفاري لم يسمع من أبي بكر الصديق ولا من عمر رضي الله عنهما، قال ابن يونس: يروي عن أبي هريرة ، وهُبَيْب بن مُغْفِل، وروايته عن علي مرسلة، وما أظنه سمع منه .
"تهذيب التهذيب" (4/ 59) .
فإذا كان لم يسمع من عليّ ، فانتفاء سماعه من أبي بكر وعمر أولى .
- حجاج بن شداد مجهول ، قال ابن القطان: لا يعرف حاله.
"تهذيب التهذيب" (2/ 202) .
- رشدين بن سعد ضعيف الحديث جدا :
ضعفه الإمام أحمد ، وابن سعد ، وأبو داود ، وابن قانع ، والدارقطني ، وعمرو بن علي ، وأبو زرعة ، وغيرهم، وقال أبو حاتم: منكر الحديث ، وفيه غفلة ، ويحدث بالمناكير عن الثقات . وقال النسائي: متروك الحديث لا يكتب حديثه .
"تهذيب التهذيب" (3 /240-241) ، "ميزان الاعتدال" (2/49) .
وقد روى ابن سعد في "الطبقات" (3/ 138) (30/324) عن محمد بن عمر ، بأسانيده : " أن أبا بكر رضي الله عنه كَانَ يَحْلُبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلافَةِ ، قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا تُحْلَب لَنَا مَنَائِحَ دَارِنَا. فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: بَلَى لَعَمْرِي ، لأَحْلُبَنَّهَا لَكُمْ ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا يُغَيِّرُنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خُلُقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ.
فَكَانَ يَحْلُبُ لَهُمْ ، فَرُبَّمَا قَالَ لِلْجَارِيَةِ مِنَ الْحَيِّ: يَا جَارِيَةُ أَتُحِبِّينَ أَنْ أُرْغِيَ لَكِ أَوْ أُصَرِّحَ؟ فَرُبَّمَا قَالَتْ: أَرْغِ. وَرُبَّمَا قَالَتْ: صَرِّحْ. فَأَيّ ذَلِكَ قَالَتْ فَعَلَ " .
وهذه القصة أيضا ضعيفة لا تثبت ؛ محمد بن عمر هو الواقدي ، كذبه الإمام أحمد وغيره ، وقال أبو داود : لا أكتب حديثه ، ولا أحدث عنه ، ما أشك أنه كان يفتعل الحديث ، وقال بُندار : ما رأيت أكذب منه.
وقال إسحاق بن راهويه هو عندي ممن يضع الحديث .
راجع : "تهذيب التهذيب" (9 /323-326) .
والحاصل :
أننا لم نقف على القصة المذكورة ، ولا ما يشبهها ، من وجه مقبول ، يسوغ نشرها ، أو تداولها .
وفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابتة عنه أفضل مما ورد في هذه القصة وأعلى .
والله تعالى أعلم .
تعليق