الحمد لله.
ما أخبرتك به هذه المرأة ، ونسبته إلى المذهب الحنفي ، من أن المعتدة من وفاة لا يلزمها إلا ترك الزواج فحسب وما عدا ذلك من الزينة فهو مباح لها لا حرج عليها فيه : أمر غير صحيح؛ فقد نص فقهاء الحنفية على أن المعتدة من وفاة : يلزمها ترك الزينة .
قال السمرقندي في تحفة الفقهاء (2 / 251): "تَفْسِير الْإِحْدَاد : هُوَ الاجتناب عَن جَمِيع مَا يتزين بِهِ النِّسَاء من الطّيب ، وَلبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ ، والمطيب بالعصفر والزعفران ، والاكتحال ، والادهان ، والامتشاط وَلبس الْحلِيّ والخضاب ، وَنَحْو ذَلِك " انتهى.
وفي تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (3 / 34): " (تُحِدُّ مُعْتَدَّةُ الْمَوْتِ : بِتَرْكِ الزِّينَةِ ، وَالطِّيبِ ، وَالْكُحْلِ وَالدُّهْنِ ، إلَّا بِعُذْرٍ، وَالْحِنَّاءُ، وَلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ ، إنْ كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَكْتَحِلُ ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا طَهُرَتْ ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَ وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِي" انتهى.
وفقهاء الحنفية: يجيزون للمعتدة من وفاة : الخروج نهارا للحاجة ، من كسب وعلاج ونحوهما, على أن تعود للبيت ليلا لتبيت فيه, جاء في البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق (4 / 166): "(وَمُعْتَدَّةُ الْمَوْتِ تَخْرُجُ يَوْمًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ) لِتَكْتَسِبَ لِأَجْلِ قِيَامِ الْمَعِيشَةِ ...... فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَدَارَ الْحِلِّ كَوْنُ خُرُوجِهَا بِسَبَبِ قِيَامِ شُغْلِ الْمَعِيشَةِ ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، فَمَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهَا : لَا يَحِلُّ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَرْفُ الزَّمَانِ خَارِجَ بَيْتِهَا" انتهى.
وقال الكاساني: "وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا : فَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا فِي حَوَائِجِهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لِاكْتِسَابِ مَا تُنْفِقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَلْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ، وَلَا تَخْرُجُ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ ، بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ" انتهى من بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3 / 205).
وهذا القدر من المكث في البيت ، واجتناب الزينة فترة العدة : يكاد يتفق عليه فقهاء المذاهب الأربعة:
أما المالكية فقد قال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة (2 / 622): "الإحداد واجب على المتوفى عنها زوجها ، حتى تنقضي عدتها بشهورها أو بوضع حملها ...
والإحداد : هو اجتناب جميع ما يتزين به النساء ، من حلي وصبغ وكحل وخضاب وثياب مصبوغة ملونة أو بيض يلبس منها للزينة ... وأما الحلي والخاتم وما فوقه فلا يجوز للحاد لبسه ، وكذلك الطيب كله ... وان اضطرت إلى الكحل : اكتحلت ليلا ، ومسحته بالنهار . ولا تقرب شيئا من الأدهان المطيبة ... وكل ما لا زينة فيه فلا بأس للحاد من النساء به" انتهى.
وأما الشافعية فقد قال أبو إسحاق الشيرازي في (التنبيه في الفقه الشافعي) (1 / 201): "والإحداد : أن تترك الزينة ، فلا تلبس الحلي ولا تتطيب ولا تخضب ، ولا ترجل الشعر ، ولا تكتحل بالإثمد والصبر ، فإن احتاجت إليه : اكتحلت بالليل وغسلت بالنهار . ولا تلبس الأحمر والأزرق الصافي . ولا يجوز أن تخرج من المنزل لغير حاجة ، وإن أرادت الخروج لحاجة لم يجز ذلك بالليل ، ويجوز للمتوفى زوجها الخروج لقضاء الحاجة بالنهار"انتهى.
وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة المقدسي في (عمدة الفقه) (1 / 107): باب الإحداد: وهو واجب على من توفي عنها زوجها ، وهو اجتناب الزينة والطيب والكحل بالإثمد ولبس الثياب المصبوغة للتحسين ...... وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه ، إذا أمكنها ذلك" انتهى.
والله أعلم.
تعليق