الحمد لله.
فاطمة رضي الله عنها ذات المقام الفاضل، والشرف الرفيع، والديانة الكاملة، من خير نساء الدنيا ولا شك، ومن أحب الناس إلى قلب أبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، فضائلها كثيرة، ومآثرها جليلة، حتى صنف فيها ابن شاهين (ت385هـ) "فضائل فاطمة"، وأبو عبد الله الحاكم (ت405هـ) "فضائل فاطمة الزهراء"، وكتب السيوطي (ت911هـ) "الثغور الباسمة في مناقب فاطمة"، وألف المناوي (ت1031هـ) "إتحاف السائل بما لفاطمة من المناقب والفضائل" .
ويكفيها شرفا قول الله جل جلاله في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، عامة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الأحزاب/ 33 .
وقد سبق ذكر شيء من فضائلها في موقعنا عند الأرقام الآتية: (11787)، (145623).
أما الحديث الصحيح الوارد في الثناء بالكمال فيقتصر
على ذكر: آسية، ومريم.
وهو حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كَمَلَ
مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ) رواه البخاري (3411) ، ومسلم
(2431) .
وفاطمة وعائشة وباقي أمهات المؤمنين لا شك أنهن من أكمل النساء عقلا وخلقا وفضلا
أيضا، ولكن لم يثبت ذكرهن في هذا الحديث، حديث أبي موسى الأشعري .
فمداره على شعبة بن الحجاج ، رواه جماعة كثر من تلاميذه في العديد من كتب السنة
والآثار، فلم يذكر أحد منهم فاطمة رضي الله عنها، سوى الطبري في "جامع البيان"
(6/397) قال: حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا
عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
(كمل من الرّجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة
بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)
وهذا غلط على شعبة، وغلطٌ أيضا على آدم العسقلاني، فجميع الرواة عن شعبة لا يذكرون
عنه خديجة ولا فاطمة، بل وآدم العسقلاني، وهو آدم بن أبي إياس، يروي الحديث عن شعبة
على وجهه الصحيح دون هذه الزيادة، كما حدث به عنه تلميذه البخاري في "صحيحه" (3433،
وأيضا 3769).
فالخطأ والشذوذ واضح هنا أنه وقع من شيخ الطبري، الذي هو المثنى بن إبراهيم، - وهو
رغم كثرة رواياته في "تفسير الطبري" – إلا أننا لم نقف له على ترجمة، كما في كتاب "معجم
شيوخ الطبري" (ص420-435) لأكرم الفالوجي.
وعلى فرض الأخذ بتوثيقه تبعا لتصحيح ابن كثير بعض الأسانيد التي يذكر فيها، إلا أن
توثيقه لا يقارن بثقة الإمام البخاري رحمه الله ، الذي روى الحديث عن آدم بن أبي
إياس، دون ذكر فاطمة.
ولهذا فأقل ما يقال في زيادة "فاطمة"، و"خديجة" رضي الله عنهما في هذا الحديث إنها
زيادة شاذة لا تقبل.
وعلى فرض صحة الرواية التي تضيف فاطمة رضي الله عنهما
إلى وصف الكمال، فليس المقصود به الكمال المعصوم عن الخطأ أو الزلل، أو الكمال
المطلق الذي يقترب من كمال العصمة، بل المقصود الكمال البشري الممكن، الذي تصبح فيه
الفضائل والمآثر هي الصبغة العامة التي تصبغ صاحبها، وتحكم شخصه وصفاته وأفعاله على
أحسن الوجوه الممكنة ، وما يقع من خطأ ، أو زلة يسيرة ، تغدو مغمورة مرجوحة في جنب
هذه السجايا الجليلة ، وتغدو أخطاء مغفورة معذورة بإذن الله ، لا تغض من شأن صاحبها
، ولا تنقص قدره الذي وضعه الله فيه .
كما يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله : "وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما
هو لله تعالى خاصة" انتهى من "المفهم" (6/332).
ويقول القاضي عياض رحمه الله: "الكمال : التناهي للشيء ، وتمامه في بابه. والمراد
هاهنا: التناهي في جو الفضائل وخصال البر والتقوى. يقال منه كمَل وكمُل، بالفتح
والضم ... " .
انتهى من "إكمال المعلم" (7/440) .
ولهذا لم يقل جمهور العلماء إن آسية ومريم لا ذنوب لهما، أو أن العصمة ثابتة لهما، وأنهما لم يخالفا الأَولى في حياتهما، فهذا لا يفهم من الحديث ابتداء، ولا ينسب من باب أولى لفاطمة وخديجة رضي الله عنهما. ينظر الجواب رقم : (7181) ، ورقم : (145623) .
وغضب السيدة فاطمة رضي الله عنها لم يقع في مورد الذم، ولا في سياق النقص، فحادثة مغاضبتها مع زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يُعرَف سببها ، ولا مَن المصيب منهما، ثم هذا أمر لا يخلو منه بنو الناس كلهم ، في عيشهم ، وتصاريف دهرهم .
وكذلك لا عتب عليها في طلبها الخادم، فليس ذلك من الإثم ولا من المعصية، ولا من التقصير في حق البيت والزوج، كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (119740) .
وقد كانت رضي الله عنها تقوم به حق القيام ، حتى أثر ذلك في قوتها، ولم تَشكُهُ إلا اضطرارا وضعفا كما جاء في الحديث " أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا " رواه البخاري ، رقم(3705)، فسألت الخادم حينها ، لما وجدته في بدنها من أثر الرحا، وهو تعبير يخبئ تحته العديد من صور الجهد والبرح ، التي تصيب البدن نتيجة هذا المجهود اليومي الكبير، وتتفاوت في ذلك الأبدان ، وطاقتها لتلك المشقة أو عدمها ؛ كل بحسبه، وكفى بذلك عذرا في سؤال التخفيف من المعاناة.
وأما غضبها لأجل عزم علي رضي الله عنه على الزواج من
ابنة أبي جهل فهو غضب مشروع نتيجة مخالفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شرط زواجها،
كما يأتي ذكره .
ثم هو من غيرة النساء التي جبلت عليها، ولا تكاد تسلم منها امرأة، وما دامت في حدود
مقبولة شرعا وعرفا ، فلا يعد ذلك منها : عيبا ولا نقصا، المهم أن لا تتعدى إلى
الظلم والافتراء والغيبة والكره ، ونحوها من المساوئ التي تؤدي إليها الغيرة ، وما
سوى ذلك من مشاعر قلبية تبحث فيها المرأة عن الاستئثار بزوجها دون غيرها ، فليس
مذمة ولا منقصة في نفسه، وإنما بحسب ما يترتب عليه.
وهذا غاية ما وقع من فاطمة رضي الله عنها ، خاصة إذا قلنا إن النبي صلى الله عليه
وسلم قد اشترط ذلك على من تزوج بناته، وهو الأقرب في ذلك ، فيما يظهر ، والله أعلم
، كما يشعر به قوله عليه الصلاة والسلام – عن زوج ابنته زينب -: ( أمَّا بَعْدُ
فَإِنِّي أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي،
وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي ، وإِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي ، يُؤْذِينِي مَا
آذَاهَا) رواه البخاري (3110) ، ومسلم (2449) ، ينظر: (162287)
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:
"فإن قيل:
فمِن أي الأنواع تعدون غيرة فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما عزم على نكاح ابنة أبي جهل، وغيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم لها؟
قيل:
من الغيرة التي يحبها الله ورسوله ، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها
بضعة منه، وأنه يؤذيه ما آذاها، ويريبه ما أرابها ، ولم يكن يحسن ذلك الاجتماع
البتة ، فإن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحسن أن تجتمع مع بنت عدوه عند
رجل، فإن هذا في غاية المنافرة.
مع أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صهره الذي حدثه فصدقه ووعده فوفى له ، دليل على
أن عليا رضي الله عنه كان مشروطا عليه في العقد، إما لفظا، وإما عرفا وحالا، أن لا
يريب فاطمة، ولا يؤذيها، بل يمسكها بالمعروف، وليس من المعروف أن يضم إليها بنت عدو
الله ورسوله ويغيظها بها.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي
ويتزوج ابنة أبي جهل) .
والشرط العرفي الحالي كالشرط اللفظي عند كثير من الفقهاء، كفقهاء المدينة وأحمد بن
حنبل وأصحابه رحمهم الله تعالى.
على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف عليها الفتنة في دينها باجتماعها وبنت عدو
الله عنده، فلم تكن غيرته لمجرد كراهية الطبع للمشاركة، بل الحامل عليها حرمة الدين،
وقد أشار إلى هذا بقوله: (إني أخاف أن تفتن في دينها)" والله أعلم بالصواب" .
انتهى من "روضة المحبين" (ص315).
وأما المفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما،
فالعدل والإنصاف فيها يقضي بترك إطلاق الحكم المطلق في ذلك ، والاقتصار على تفضيل
كل واحدة منهما في الجوانب الخاصة بها.
وقد شرح ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله بتوسع، فقال:
"الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة ، أو فاطمة أفضل : إذا حرر محل التفضيل ، صار
وفاقا.
فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم:
فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل : فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص؛
لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب، لا بمجرد أعمال الجوارح.
وكم من عامِلين : أحدهما أكثر عملا بجوارحه ، والآخر أرفع درجة منه في الجنة.
وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم، فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدت إلى
الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.
وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل، وجلالة النسب، فلا ريب أن فاطمة أفضل ؛ فإنها بضعة من
النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها.
وإن أريد السيادة، ففاطمة سيدة نساء الأمة.
وإذا تبينت وجوه التفضيل، وموارد الفضل، وأسبابه، صار الكلام بعلم وعدل.
وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل، ولم يوازن بينها، فيبخس الحق.
وإن انضم إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله : تكلم بالجهل والظلم ".
" انتهى من "بدائع الفوائد" (3/ 161-162) .
وللمزيد ينظر: (198725) .
والله أعلم.
تعليق