الحمد لله.
إذا همّ أحد أتباع الأديان الأخرى بالإسلام، وجاء بالشهادتين ، أو بمعناهما مقرا ومعتقدا، ولكنه استمر على نسبة نفسه إلى دينه، بقوله إنه يهودي أو نصراني أو نحو ذلك، فقد صرح الفقهاء في مثله بأنه لا يقبل منه إسلامه حتى يتبرأ من دينه، ولا يكفي منه ولو نطق بالشهادتين، لأنه ما يزال ينقضها بنسبة نفسه إلى دين غير دين الإسلام، الأمر الذي يعني خللا في فهمه الشهادتين أصلا، فلا يتحقق بها الإسلام في مثل هذه الحالة حتى يزول اللبس عنده، ويبين لهذا المتناقض حقيقة تناقضه، ويحاور بالتي هي أحسن، فمثله من السهل بإذن الله حواره وإقناعه.
وقد تكلم الفقهاء قديما عن العديد من المحترزات في هذا الموضوع، وبينوا أن كل
حالة خاصة، يظهر فيها اعتقاد معين يناقض عقيدة الإسلام، فلا بد لصحة التوبة عن ذلك
الدين أو المعتقد والدخول في الإسلام: أن يبيِّن التائب تبرؤه منه، وينص عليه في
شهادته عند الدخول في الإسلام، وهذا شرط مبرر، لأن الدخول في الإسلام يعني البراءة
من جميع الأديان سواه، فإذا تبين أن شخصا معينا ينتسب إلى الأديان الباطلة، فمثله
لم يدخل الإسلام.
يقول الله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]
ويقول عليه الصلاة والسلام: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا
يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)
رواه مسلم في "صحيحه" (رقم23)
يقول الإمام السرخسي رحمه الله:
"تمام الإسلام من اليهودي : التبري عن اليهودية، ومن النصراني : التبري عن
النصرانية" انتهى من "المبسوط" (10/99)
ويقول الإمام الكاساني رحمه الله:
"إن كان [يعني من اليهود والنصارى] فأتى بالشهادتين فقال: لا إله إلا الله، محمد
رسول الله، لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي عليه؛ من اليهودية أو
النصرانية؛ لأن من هؤلاء من يقر برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يقول:
إنه بعث إلى العرب خاصة دون غيرهم. فلا يكون إتيانه بالشهادتين بدون التبرؤ دليلا
على إيمانه.
وكذا إذا قال يهودي أو نصراني: أنا مؤمن أو مسلم. أو قال: آمنت أو: أسلمت. لا يحكم
بإسلامه؛ لأنهم يدعون أنهم مؤمنون ومسلمون، والإيمان والإسلام هو الذي هم عليه .
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم
أو قال: أسلمت. سئل عن ذلك ؛ أيَّ شيء أردت به ؟
إن قال: أردت به ترك اليهودية، أو النصرانية، والدخول في دين الإسلام : يحكم
بإسلامه، حتى لو رجع عن ذلك ، كان مرتدا.
وإن قال: أردت بقولي: أسلمت ، أني على الحق، ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني ، لم يحكم
بإسلامه.
ولو قال يهودي أو نصراني: أشهد أن لا إله إلا الله، وأتبرأ عن اليهودية، أو
النصرانية لا يحكم بإسلامه؛ لأنهم لا يمتنعون عن كلمة التوحيد ؛ والتبرؤ عن
اليهودية والنصرانية لا يكون دليل الدخول في دين الإسلام؛ لاحتمال أنه تبرأ عن ذلك،
ودخل في دين آخر سوى دين الإسلام، فلا يصلح التبرؤ دليل الإيمان مع الاحتمال.
ولو أقر مع ذلك فقال: دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد صلى الله عليه وسلم حكم
بالإسلام؛ لزوال الاحتمال بهذه القرينة . والله سبحانه وتعالى أعلم" انتهى من
"بدائع الصنائع" (7/103)، وانظر "فتح القدير" (6/70)
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:
"ومن كان على دين اليهودية والنصرانية، فهؤلاء يدعون دين موسى وعيسى صلوات الله
وسلامه عليهما، وقد بدلوا منه، وقد أخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فكفروا بترك الإيمان به، واتباع دينه، مع ما كفروا به من الكذب على
الله قبله.
فقد قيل لي: إن فيهم من هو مقيم على دينه، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده
ورسوله، ويقول: لم يبعث إلينا. فإن كان فيهم أحد هكذا، فقال أحد منهم: أشهد أن لا
إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى
يقول: وأن دين محمد حق أو فرض، وأبرأ مما خالف دين محمد صلى الله عليه وسلم ، أو
دين الإسلام. فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان" انتهى من "الأم" (6/ 171)
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
"لا بد في الإسلام مطلقا، وفي النجاة من الخلود في النار، كما حكى عليه الإجماع في
شرح مسلم، من التلفظ بالشهادتين من الناطق، فلا يكفي ما بقلبه من الإيمان... ثم
الاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم إلى غير العرب ممن ينكرها، أو البراءة من كل
دين يخالف دين الإسلام، وبرجوعه عن الاعتقاد الذي ارتد بسببه" انتهى من "تحفة
المحتاج" (9/97)
ويقول العلامة الحجاوي الحنبلي رحمه الله:
"إن كانت ردته بإنكار فرض، أو إحلال محرم، أو جحد نبي، أو كتاب، أو شيء منه، أو إلى
دين من يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب خاصة، فلا يصح إسلامه حتى
يقر بما جحده، ويشهد أن محمدا بعث إلى العالمين، أو يقول: أنا برئ من كل دين يخالف
الإسلام، مع الإتيان بالشهادتين" انتهى من "الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل"
(4/ 303)
والخلاصة : أنه لا يصح إسلام هذا الذي يعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله ، وأن الإسلام حق ، لكنه في الوقت نفسه يخبر عن نفسه أنه نصراني!
والله أعلم.
تعليق