الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

لماذا كان في الحرم المكي لكل مذهب إمام يصلي بأهل مذهبه ؟

245983

تاريخ النشر : 15-11-2016

المشاهدات : 57326

السؤال


سمعت أنه قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان هناك أربع أئمة من المذاهب الأربعة ، كل واحد منهم يصلي بالناس من مذهبهم في المسج ، فأرجو توضيح الأمر ، ولماذا كان يحدث ذلك؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
قد أحدثت هذه البدعة قديما ، في القرن السادس الهجري تقريبا ، وليست إلا أثرا ومظهرا من مظاهر التعصب المذهبي ، حيث بني في المسجد الحرام لكل مذهب مقام ، يصلي أهل كل مذهب في مقامهم ، فمقام للحنفية مقابل الميزاب ، ومقام للمالكية قبالة الركن اليماني ، ومقام للشافعية خلف مقام إبراهيم عليه السلام ، ومقام للحنابلة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني .
وتكون صلاتهم مرتبة ، فيقيم ويصلي أهل المذهب الشافعي ، وحين يفرغون من الصلاة يقيم ويصلي الأحناف ، ثم المالكية ثم الحنابلة ، إلا في صلاة المغرب ، فإنهم يصلون في وقت واحد ، كل مذهب بإمامهم فتتداخل الأصوات ويحدث من السهو واللغط شيء كثير .
وممن تكلم عن هذه الظاهرة المبتدعة ابن جبير رحمه الله في رحلته للحج عام 579هـ ، قال :
" وللحرم أربعة أئمة سنية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية ... فأوّل الأئمة السنية الشافعي ، وإنما قدّمنا ذكره لأنه المقدّم من الإمام العبّاسي ، وهو أول من يصلي ، وصلاته خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم ، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها : يبدأ مؤذن الشافعيّ بالإقامة ، ثم يقيم مؤذّنو سائر الأئمة. وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة . فربما ركع المالكيّ بركوع الشافعي أو الحنفيّ ، أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه . فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو ، ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس " انتهى من " رحلة ابن جبير " ص (70) .
وقد بقيت هذه البدعة زمنا طويلا حتى قامت الدولة السعودية الأولى ، ثم عادت بعد زوال الدولة السعودية الأولى ، واستمرت إلى أن جاء الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله ، فندب العلماء للنظر في مقامات المسجد وانقسام جماعته لجماعات متفرقة ، وكان ذلك من ابتداء توليه على الحجاز عام 1343هـ ، ثم أصدر أمره بإبطال هذه البدعة وتوحيد الجماعة خلف إمام واحد لجميع الصلوات ، ينظر " تاريخ عمارة المسجد الحرام " (ص:233) .

ثانيا :
أنكر العلماء قديما وحديثا هذه المقامات المحدثة ، ومفسدتها ظاهرة ، ولا يخفى ما يحصل بها من تفريق جماعة المسلمين ، وإظهارهم وكأنهم أهل ملل شتى .
فكيف يجوز أن يظهروا بهذا القدر من الاختلاف في ركن إسلامهم وعمود دينهم ، وفي موطن هو أحب البلاد إلى الله ، ومهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم ، وعنوان اجتماعهم ؟!
وممن أطال في هذه المسألة وبيان بدعيتها ، الشيخ ابن الحباب ، والغساني رحمهما الله تعالى ، ولخص كلامهم في ذلك الشيخ الحطاب المالكي رحمه الله ، فنقل عن ابن الحباب قوله :
" الذي اختلف العلماء فيه إنما هو في مسجد ليس له إمام راتب ، أو له إمام راتب وأقيمت الصلاة فيه جماعة ثم جاء آخرون فأرادوا إقامة تلك الصلاة جماعة ، فهذا موضع الخلاف ، فأما حضور جماعتين أو أكثر في مسجد واحد ، ثم تقام الصلاة ، فيتقدم الإمام الراتب فيصلي ، وأولئك عكوف من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك ، تاركون لإقامة الصلاة مع الإمام الراتب ، متشاغلون بالنوافل والحديث حتى تنقضي صلاة الأول ، ثم يقوم الذي يليه ، وتبقى الجماعة الأخرى على نحو ما ذكرنا ، ثم يصلون ، أو تحضر الصلاة الواحدة كالمغرب ، فيقيم كل إمام الصلاة جهرا يسمعها الكافة ، ووجوههم مترائية ، والمقتدون بهم مختلطون في الصفوف ، ويسمع كل واحد من الأئمة قراءة الآخرين ، ويركعون ويسجدون ، فيكون أحدهم في الركوع ، والآخر في الرفع منه ، والآخر في السجود ؛ فالأمة مجمعة على أن هذه الصلاة لا تجوز ، وأقل أحوالها أن تكون مكروهة ، فقول القائل : إنها جائزة ولا كراهة فيها ، خرق لإجماع الصحابة والقرن الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس إلى حين ظهور هذه البدعة ...
ثم نقل ابن الحباب عن الأئمة الأربعة منعهم من جعل إمامين راتبين لجماعتين ، يصلي الأول بجماعته ، ثم الثاني بجماعته ...
قال : " ولا يمكن أحدًا أن يحكي مثل هذا القول عن أحد من الفقهاء ، لا فعلا ولا قولا ، فكيف بإمامين يقيمان الصلاة في وقت واحد ، يقول كل واحد منهما حي على الصلاة ، ويكبر كل واحد منهما ، وأهل القدوة مختلطون ، ويسمع كل واحد قراءة الآخر ؛ فهؤلاء زادوا على الخلاف الذي لسلف الأمة وخلفها ، مخالفةَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ) ، والله لم يرض هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمتنفلين تنفلا في المسجد ، بل لم يرضه لمقتد اقتدى به ، فصلى خلفه ؛ فكيف يرضى ذلك لإمامين منفردين ؟! هذا مما لا نعلم له نظيرا في قديم ولا حديث "
وقال أيضا : "... ثم ذكر عن جماعة من علماء وردوا إلى مكة في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وأنهم أنكروا صلاة الأئمة الأربعة مترتبين على الصفة المعهودة ، وأنه عرض ما أملاه في عدم جواز هذه الصلاة ، وأنكر إقامتها على جماعة من العلماء ، وأنهم وافقوه على أن المنع من ذلك هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة . انْتَهَى، مُخْتَصَرًا غَالِبُهُ بِالْمَعْنَى " .
وقال الشيخ أبو إبراهيم الغساني :
" إن افتراق الجماعة عند الإقامة على أئمة متعددة : إمام ساجد وإمام راكع وإمام يقول سمع الله لمن حمده : لم يوجد من ذكره من الأئمة ، ولا أذن به أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ، لا من صحت عقيدته ولا من فسدت ، لا في سفر ولا في حضر ، ولا عند تلاحم السيوف ، وتضام الصفوف في سبيل الله ، ولا يوجد في ذلك أثر لمن تقدم فيكون له به أسوة "
انتهى النقل عنهما من " مواهب الجليل " (2/109-110) .
قال الحطاب المالكي بعد ذلك :
" قلت : وما قاله هؤلاء الأئمة ظاهر لا شك فيه إذ لا يشك عاقل في أن هذا الفعل المذكور مناقض لمقصود الشارع من مشروعية صلاة الجماعة ، وهو اجتماع المسلمين وأن تعود بركة بعضهم على بعض ، وأن لا يؤدي ذلك إلى تفرق الكلمة ، ولم يسمح الشارع بتفريق الجماعة بإمامين عند الضرورة الشديدة ، وهي حضور القتال مع عدو الدين ، بل أمر بقسم الجماعة وصلاتهم بإمام واحد ، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله بهدم مسجد الضرار لما اتخذ لتفريق الجماعة " انتهى .
وقال العلامة قطب الدين الحنفي :
"إنَّ تعدُّد المقامات في مسجد واحد ، لاستقلال كلِّ مذهب بإمام : ما أجازه كثيرٌ من العلماء، وإنَّ تعدُّدَ المقامات في وقت حدوثه ، أنكره العلماء غاية الإنكار، ولهم في ذلك رسالات متعدِّدة باقية بأيدي الناس الآن، وإنَّ علماء مصر أفتوا بعدم جواز ذلك، وخطَّأوا مَن قال بجوازه". نقله عنه الشوكاني في " البدر الطالع " (2/27) .
وقال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في كتابه " التعليق المغني على سنن الدارقطني " (4/226) :
"ومنها ـ يعني البدع ـ تكرار الجماعات بأئمة متعدِّدة ، كما يُصنع الآن في الحرم الشريف ، فيقولون : هذا المصلى للشافعي ، وهذا للحنفي ، وهذا للمالكي ، وهذا للحنبلي ، ويَسعون في تفريق الجماعة ، قال القاضي الشوكاني في إرشاد السائل إلى دليل المسائل : وإنَّ من أعظمها خطراً وأشدِّها على الإسلام ، ما يقع الآن في الحرم الشريف من تفريق الجماعة ، ووقوف كلِّ طائفة في مقام من هذه المقامات ، كأنَّهم أهل أديان مختلفة ، وشرائع غير مؤتلفة ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" انتهى .
وقال أحمد شاكر – رحمه الله- في تعليقه على الترمذي (1/431) :
" وقد كان عن تساهل المسلمين في هذا ، وظنهم أن إعادة الجماعة في المساجد جائزة مطلقاً : أن فشت بدعة منكرة في الجوامع العامة ، مثل الجامع الأزهر والمسجد المنسوب للحسين – رضي الله عنه - وغيرهما بمصر ، فجعلوا في المسجد الواحد إمامين راتبين أو أكثر ... "
إلى أن قال :
" بل قد بلغنا أن هذا المنكر كان في الحرم المكي ، وأنه كان يصلى فيه أربعة أئمة يزعمونهم للمذاهب الأربعة ، ولكننا لم نر ذلك ، إذ أننا لم ندرك هذا العهد بمكة ، وإنما حججنا في عهد الملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله- ، وسمعنا أنه أبطل هذه البدعة وجمع الناس في الحرم على إمام واحد راتب ، ونرجو أن يوفق الله علماء الإسلام لإبطال هذه البدعة من جميع المساجد في البلدان بفضل الله وعونه إنه سميع الدعاء " . انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - :
" أن يكون في المسجدِ جماعتان دائماً ، الجماعة الأُولى والجماعةُ الثانيةُ ، فهذا لا شَكَّ أنَّه مكروهٌ إنْ لم نقل : إنه محرَّمٌ ؛ لأنَّه بدعةٌ ؛ لم يكن معروفاً في عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
ومِن ذلك ما كان معروفاً في المسجدِ الحرامِ سابقاً قبل أن تتولَّى الحكومةُ السعوديةُ عليه ، كان فيه أربعُ جماعاتٍ ، كلُّ جماعة لها إمامٌ : إمامُ الحنابلةِ يصلِّي بالحنابلة ، وإمامُ الشافعيةِ يصلِّي بالشافعيةِ ، وإمامُ المالكيةِ يصلِّي بالمالكيةِ ، وإمامُ الأحنافِ يصلِّي بالأحنافِ .
ويسمُّونه : هذا مقامُ الشَّافعي ، وهذا مقامُ المالكي ، وهذا مقامُ الحنفي ، وهذا مقامُ الحنبلي ، لكن الملك عبد العزيز جزاه اللهُ خيراً لمَّا دخل مكَّة ، قال : هذا تفريقٌ للأمَّةِ ، أي : أنَّ الأمةَ الإسلاميةَ متفرِّقة في مسجدٍ واحدٍ ، وهذا لا يجوز ، فجمعهم على إمامٍ واحدٍ ، وهذه مِن مناقبه وفضائله رحمه الله تعالى " انتهى من " الشرح الممتع " (4/161) .

ثالثا :
مع إنكار كثير من العلماء لهذه المقامات ووضوح الأدلة على بدعيتها ، إلا أنها استمرت فترة طويلة ، قرابة تسعة قرون ، حتى ظن بعض الناس أنها جائزة باتفاق الأئمة الأربعة ، وغرّهم توارد أتباع الأئمة الأربعة عليها ، وعدم إنكارها .
وقد سبق بيان مخالفتها لمذاهب الأئمة الأربعة ، وإنكار أتباعهم من أهل العلم والدين لذلك – وإن كان إنكارا لم يظهر أثره إلا متأخرا – .
وهذا من أظهر الأدلة على أن انتشار البدع ، ورواجها ، ليس دليلا على صحتها، وقد يسكت بعض العلماء على إنكارها لسبب من الأسباب ولا يكون هذا السكوت إقرارا منه بجوازها .
قال الصنعاني رحمه الله :
" سكوتَ العالِم ، أو العالَم ، على وقوع مُنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر ، ولنضْرِبْ لك مثلاً مِن ذلك ...
هذا حَرَمُ الله الذي هو أفضلُ بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدَث فيه بعضُ ملوك الشراكسة الجهلة الضُّلال هذه المقامات الأربعة، التي فرَّقت عبادات العِباد، واشتملت على ما لا يُحصيه إلاَّ الله عز وجل من الفساد، وفرَّقت عبادات المسلمين، وصيَّرتهم كالمِلَلِ المختلفة في الدِّين، بدعةٌ قرَّت بها عينُ إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكةَ الشياطين، وقد سكتَ الناسُ عليها، ووفَد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كلُّ ذي عينين، وسَمع بها كلُّ ذي أذنين ؛ أفهذا السكوت دليلٌ على جوازها؟ هذا لا يقولُه مَن له إلْمَامٌ بشيء من المعارف " .
انتهى من " تطهير الاعتقاد " (ص:78) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب