الحمد لله.
أولا:
جميع فقهاء الإسلام المعتبرين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق وغيرهم، لا يقولون قولا في مسألة من الدين إلا بدليل شرعي معتمد عندهم.
ولا يجوز الظن بواحد منهم
أنه يقول في مسألة بغير دليل، لأن ذلك من القول على الله بلا علم، وهو محرم تحريما
شديدا، كما قال تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لا تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند
الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق
ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا ، على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من
الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن إذا وجد لواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه : فلا بد له من عذر في تركه
.
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله .
والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة .
السبب الأول : ألا يكون الحديث قد بلغه . ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون
عالما بموجَبه ، وإذا لم يكن قد بلغه ، وقد قال في تلك القضية بموجِب ظاهر آية أو
حديث آخر، أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب : فقد يوافق ذلك الحديث تارة ، ويخالفه
أخرى .
وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث..." .
انتهى من "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "(ص9).
ثانيا:
(الدليل المعتمد) يختلف من فقيه إلى آخر، فقد يعتمد الفقيه القياس، وقد يعتمد
الحديث الضعيف ويقدمه على القياس، وقد يعتمد عمل أهل المدينة، أو الاستحسان، أو قول
الصحابي، بناء على اجتهاده في تحديد الدليل المعتبر شرعا، وهذا سبب ظاهر من أسباب
اختلاف الفقهاء.
وقد يكون من منهج الفقيه عدم الاحتجاج بالحديث الضعيف، فيحتج بحديث يظنه صحيحا، ثم
يظهر لغيره ضعفه.
وقد يقول في مسألة فيها نهي صريح، بالكراهة، لاعتماده على حديث معارض، ظنه صحيحا،
أو يقول في مسألة فيها أمر صريح، بالندب، اعتمادا على معارض، ظنه صحيحا، ويقول غيره
بالتحريم في المسألة الأولى، وبالوجوب في المسألة الثانية؛ لما قد تبين له من عدم
صحة المعارض.
وهذا باب واسع جدا.
ثالثا:
من أمثلة اعتماد الحنفية على حديث ضعيف:
1-قولهم إن القهقهة في الصلاة تبطل الوضوء.
قال في "الهداية" (1/15): " والقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود .
والقياس أنها لا تنقض ، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى ؛ لأنه ليس بخارج نجس ،
ولهذا لم يكن حدثا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وخارج الصلاة.
ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة
جميعا) وبمثله يترك القياس" انتهى.
قال الزيلعي في "نصب الراية لأحاديث الهداية" (1/47) بعد إيراده الحديث: " قلت: فيه
أحاديث مسندة، وأحاديث مرسلة. أما المسندة فرويت من حديث أبي موسى الأشعري. وأبي
هريرة. وعبد الله بن عمر. وأنس بن مالك. وجابر بن عبد الله. وعمران بن الحصين. وأبي
المليح.".
ثم ذكرها، ثم قال: " وأما المراسيل فهي أربعة: أشهرها مرسل أبي العالية. والثاني:
مرسل معبد الجهني. والثالث: مرسل إبراهيم النخعي. والرابع: مرسل الحسن" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية
في تخريج أحاديث " (1/34): " حديث: (ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الصلاة الوضوء
جميعا) ابن عدي من حديث ابن عمر رفعه: (من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء
والصلاة) وإسناده ضعيف، وهو من رواية بقية وقد اضطرب فيه كما سيأتي إن شاء الله
تعالى.
وعن جابر : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضحك منكم في الصلاة فليتوضأ
ثم ليعد الصلاة) أخرجه الدارقطني من طريق يزيد بن سنان عن الأعمش عن أبي سفيان عنه
، وقال: وهم في رفعه، فقد رواه الثوري ووكيع وأبو معاوية وغيرهم من الأثبات عن
الأعمش موقوفا، ثم أخرجها وزاد في رواية: (إنما قال لهم ذلك حين ضحكوا خلف رسول
الله صلى الله عليه وسلم) انتهى. وهذا يشعر بأن للحديث أصلا، إلا أن جابرا ادعى
الخصوصية...
وأشهر شيء في الباب حديث أبي العالية ، ولا يصح ذلك؛ لأنه من رواية المسيب بن شريك
عن الأعمش والمسيب متروك... قال ابن عدي: الحديث حديث أبي العالية، وبه يعرف، ومن
أجله تكلم الناس فيه.
كأنه يشير إلى قول الشافعي: حديث أبي العالية الرياحي : رياح. وقال الحاكم في علوم
الحديث: أراد بذلك حديث القهقهة فقط. وقال البيهقي في المعرفة: أراد ما يرسله أبو
العالية لا ما يوصله " انتهى.
وبناء على ضعف الأحاديث في
هذه المسألة، ذهب جمهور الفقهاء إلى أن القهقهة لا تنقض الوضوء داخل الصلاة، كما
أنها لا تنقضه خارج الصلاة اتفاقا.
قال ابن قدامة رحمه الله في
"المغني" (1/201) : " وليس في القهقهة وضوء ؛ روى ذلك عن عروة وعطاء و الزهري ومالك
والشافعي وإسحاق وابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي : يجب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة دون خارجها، وروي ذلك عن
الحسن والنخعي والثوري؛ لما روى أبو العالية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يصلي ، فجاء ضرير فتردى في بئر ، فضحك طوائف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذين
ضحكوا أن يعيدوا الوضوء والصلاة.
وروي من غير طريق أبي العالية بأسانيد ضعاف، وحاصله يرجع إلى أبي العالية كذلك قال
عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد والدارقطني.
ولنا : أنه معنى لا يبطل الوضوء خارج فلم يبطله داخلها ، كالكلام، وأنه ليس بحدث
ولا يفضي إليه ، فأشبه سائر ما لا يبطل؛ ولأن الوجوب من الشارع ، ولم يصح عن الشارع
في هذا إيجاب للوضوء ، ولا في شيء يقاس هذا عليه.
وما رووه مرسل لا يثبت، وقد قال ابن سيرين : لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية
فإنهما لا يباليان عمن أخذا.
والمخالف في هذه المسألة يرد الأخبار الصحيحة لمخالفتها الأصول ، فكيف يخالفها ههنا
بهذا الخبر الضعيف عند أهل المعرفة" انتهى.
2-قولهم: لا ربا بين المسلم
والحربي في دار الحرب، اعتمادا على ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم – قال: (لا ربا
بين المسلم والحربي في دار الحرب).
قال ابن الهمام رحمه الله في بعد إيراده: "وهذا الحديث غريب، ونقل ما روى مكحول عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك.
قال الشافعي: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا ربا بين أهل الحرب أظنه قال :
وأهل الإسلام ، قال الشافعي: وهذا الحديث ليس بثابت ولا حجة فيه، أسنده عنه
البيهقي.
قال في المبسوط: هذا مرسل، ومكحول ثقة، والمرسل من مثله مقبول" .
انتهى من "فتح القدير"(7/38).
وقال الحافظ ابن حجر: " حديث:
(لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب) لم أجده لكن ذكره الشافعي ، ومن طريقه
البيهقي ، قال : قال أبو يوسف : وإنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن
مكحول ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ربا بين أهل الحرب ) أظنه قال
: ( وأهل الإسلام ) " انتهى من "الدراية" (2/158).
وقد ذهب الجمهور إلى تحريم الربا في دار الحرب، اعتمادا على عمومات الأدلة، ولضعف
هذا المرسل.
قال النووي رحمه الله : " (والجواب) عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف ، فلا حجة فيه .
ولو صح : لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب ، جمعا بين الأدلة".
انتهى من "المجموع "(9/392).
وقال ابن قدامة رحمه الله: "
ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام ، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو
يوسف والشافعي وإسحاق.
وقال أبو حنيفة : لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب .
وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب : لا ربا بينهما؛ لما روى مكحول عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب ؛ ولأن
أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام ، فما لم يكن كذلك ، كان مباحا.
ولنا: قول الله تعالى : (وحرم الربا) وقوله : (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله وذروا ما بقي من الربا) وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل ، وقوله صلى الله
عليه وسلم : (من زاد أو ازداد فقد أربى) : عام . وكذلك سائر الأحاديث .
ولأن ما كان محرما في دار الإسلام ، كان محرما في دار الحرب ، كالربا بين المسلمين.
وخبرهم مرسل لا نعرف صحته. ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك .
ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن ، وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه
، بخبر مجهول ، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به ، وهو مع ذلك مرسل ،
محتمل. ويحتمل أن المراد بقوله : (لا ربا) النهي عن الربا كقوله : (لا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج) .
وما ذكروه من الإباحة : منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام ، فإن ماله مباح ، إلا
فيما حظره الأمان " انتهى من "المغني" (4/176).
وينبغي أن تعلم أن كل مذهب يقع فيه شيء من ذلك، أي : أن يستدل إمامه بحديث، ثم يتبين لغيره عدم صحته، أو أن يخفى عليه الدليل، ويظهر لغيره، أو يظنه منسوخا، وليس الأمر كذلك، لكن المذاهب تتفاوت في ذلك قلة وكثرة.
وننصحك برسالة: "رفع الملام
عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والله أعلم.
تعليق