الحمد لله.
انتهج الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه "سير أعلام النبلاء" وفي سائر كتبه منهج الموضوعية والنزاهة، ليؤدي شهادته على الخلق المترجَمين بميزان الحق والعدل، غاية جهده ، بعيدا عن المؤثرات المذهبية أو السياسية أو العقائدية؛ الأمر الذي يقتضي من الإمام ذكر الحسنات والسيئات، ليتوج الإيجابيات بوصف مجمل يختصرها ويبرزها، ويتوج السلبيات بوصف آخر مجمل يختصرها ويبرزها، فيظن القارئ أن الإمام متناقض في نفسه، وما ذاك بالتناقض، ولكنه الإنصاف والحيادية.
فمزايا المترجَم يمكن أن يختصرها بوصفه بأنه عالم، أو حافظ، أو فاضل، أو عابد .
ثم إذا أراد أن يبين ما يتجه إليه من نقد أو جرح : وصفه بما فيه حقيقةً من بدعة، أو سوء مذهب، أو فساد مقالة، أو ضلال سبيل، ونحو ذلك من الأوصاف بحسب أحوال المترجَمين.
فإذا قال عن أحدهم إنه حافظ مبتدع، أو عالم ضال، أو فاضل رديء المذهب، فلا ينبغي أبدا أن يظن فيه التناقض؛ لأن كل واحد من هذين الوصفين متجه إلى أحد جوانب شخصية صاحب الترجمة، فحين تتعدد الاعتبارات يرتفع التناقض.
ومن أمثلة ذلك قوله في ترجمة هشام بن الحكم (10/543): "المتكلم البارع هشام بن الحكم الكوفي، الرافضي، المشبِّه، المعثِّر، وله نظر، وجدل، وتواليف كثيرة". فوصفه بالبراعة في علم الكلام والجدل والتأليف، ومع ذلك وصفه بالمعثر، لما وقع فيه من بدعة التشبيه.
وقد وضح رحمه الله في سياق كلامه معنى وصفه بـ "المعثر"، وذلك في ترجمة ابن خراش، الذي كان حافظا للحديث، ولكنه يقع في الصحابة الكرام ومثالب الشيخين، فقال فيه الذهبي (13/510): "الحافظ، الناقد، البارع ... معثر مخذول، كان علمه وبالا، وسعيه ضلالا نعوذ بالله من الشقاء".
فالعثار عنده هو العلم الذي لم يؤد إلى خشية الله، ولم يهد إلى السنن الأقوم في الاعتقاد أو العمل.
يقول المحقق الدكتور بشار عواد معروف:
"إن النقد أصبح جزءا من مفهومه التاريخي لذلك حاول تطبيقه في كل كتبه. وقد أخطأ كثير ممن فسر نقده لكبار العلماء من غير الرواة، أو الملوك، أو أرباب الولايات أو نحوهم ، بأنه من صنف "نقد الرجال"، بل هو حكم تاريخي كانت الغاية منه تقويم المترجم.
والحق أن الذهبي لم ينظر إلى أمثال هؤلاء بالمنظار الذي نظر به إلى الرواة وأشباههم في الأغلب، بل نظر إلى كل طائفة منهم بمنظار يختلف عن الآخر، وهي مسألة قلما انتبه إليها الباحثون، فوقعوا بآفة التعميم، وخرجوا بما ظنوا أنه حقيقة، فذكروا أن المؤرخين المسلمين المتأثرين بالحديث الشريف وعلومه نظروا إلى جميع الناس بمنظار واحد ، هو منظار الحديث والمحدثين.
وقد استطاع الذهبي في "السير" وغيره أن ينظر إلى كل طائفة منهم بمنظار آخر، كوَّن في الأغلب صورة لجِماع رأيه في المترجم.
إن تعدد المناظير هذا ، جعل آراء الذهبي في المترجَمين تبدو لأول وهلة متناقضة مضطربة، نحو قوله في ترجمة صدقة بن الحسين الحداد (المتوفى سنة 573 هـ): "العلامة..الفرضي المتكلم ، المتهم في دينه"، فهو هنا قد فرق بين علم الرجل ودينه، وأعطى لكل ناحية تقويما خاصا.
ومن ذلك قوله في ترجمة الشهاب السهروردي (المقتول سنة 587 هـ): "العلامة الفيلسوف. من كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل الدين" ثم علق الذهبي على إفتاء علماء حلب بقتله، بقوله: "أحسنوا وأصابوا"، وأنه "كان أحمق طياشا منحلا"، ومثل هذا كثير.
وهذا الاختلاف في المناظير وتعددها عند الذهبي ، جعله يراعي في كل طائفة صفات معينة بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه معهم، فكان ينظر إلى الخلفاء والملوك والوزراء وأرباب الولايات مثلا من زاوية الحزم والدهاء، والقوة والضعف، والسياسة، والظلم والعدل، وحب العلم والعلماء ونحوها .
مثل قوله في ترجمة قايماز مولى المستنجد "كان سمحا كريما قليل الظلم"، وقوله في ابن غانية: "الأمير المجاهد"، وقوله في مجد الدين ابن الصاحب: "وكان قد تمرد وسفك الدماء، وسب الصحابة، وعزم على قلب الدولة، فقصمه الله"، وقوله في الملك المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة: "كان بطلا، شجاعا، مقداما، جوادا، ممدحا، له مواقف مشهودة مع عمه السلطان صلاح الدين "، وغير ذلك كثير.
أما العلماء فكان يراعي فيهم البراعة والمعرفة في العلم الذي تخصصوا فيه، ومن ذلك مثلا الشعراء، فإنه نظر إلى إبداعهم وجودة شعرهم فقومهم استنادا إلى ذلك.
ثم كثيرا ما نجده يقوم بعض المترجمين بعد دراسة بعض كتبهم، ويبين قيمتها العلمية بين الكتب التي من بابتها" انتهى من "سير أعلام النبلاء" ط الرسالة (المقدمة/ 121)
ويقول أيضا :
"ولعلنا نستطيع فيما يأتي أن نتبين أسس انتقاء التراجم:
1- العلمية: كان الذهبي قد أورد في "تاريخ الإسلام" جميع المشاهير والأعلام، ولم يورد المغمورين والمجهولين، بِعُرفِ أهل الفن في كل عصر لا بعرفنا نحن، إذ لا ريب في أن هناك آلافا من التراجم التي ذكرها لم يسمع بها كثير من المتخصصين في عصرنا.
أما في "السير" فإنه اقتصر فيه على ذكر "الأعلام"، وأسقط المشهورين.
وقد استعمل الذهبي لفظ "الأعلام" ليدل على المشهورين جدا بعرفه هو ، لا بعرف غيره، ذلك أن مفهوم "العَلَم" يختلف عند مؤلف وآخر استنادا إلى عمق ثقافته ، ونظرته إلى البراعة في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو عمل من الأعمال، أو أي شيء آخر، لذلك وجدنا أن سعة ثقافة الذهبي، وعظيم اطلاعه، وكثرة معاناته ودربته بهذا الفن، قد أدت إلى توسيع هذا المفهوم بحيث صرنا نجد تراجم في "السير" مما لا نجده في كتب تناولت المشهورين، مثل "المنتظم" لابن الجوزي، و"الكامل" لابن الأثير، و"البداية" لابن كثير، و"عقد الجمان" لبدر الدين العيني، وغيرها" انتهى من " سير أعلام النبلاء" ط الرسالة (المقدمة/ 109)
تعليق