الحمد لله.
روى مسلم (1297) عن جَابِر قال: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ : ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ).
وروى البخاري (6008) عن مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : " أَتَيْنَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ
فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا
وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ وَكَانَ رَفِيقًا
رَحِيمًا فَقَالَ: ( ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ
وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ).
وهذان الحديثان فيهما الدعوة إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك وفي الصلاة ، ونقل ذلك عنه ، وتبليغه للناس .
ولاشك أن من أدى المناسك كما فعل النبي صلى الله وسلم ، فقد أدى العبادة الصحيحة على وجهها، بأركانها، وواجباتها وسننها، وكذلك لو صلى كما صلى النبي صلى الله وسلم.
لكنّ هذين الحديثين ، لا يقتضيان وجوب كل فعل فعله صلى الله عليه وسلم في
المناسك ، وفي الصلاة ، كما قد يُظن، وكما يقع في كلام بعض الفقهاء، فإن كثيرا من
أفعال المناسك التي فعلها النبي صلى الله وسلم سنة مستحبة لا واجبة عند عامة
الفقهاء ، كاستلام الحجر الأسود، والاضطباع ، والرمل، وغير ذلك .
وكذلك الصلاة ، كثير من أفعالها وأقوالها : سنة مستحبة لا تجب ، كالاستفتاح، ورفع
اليدين مع التكبير، والزيادة على المرة في تسبيح الركوع والسجود، وجلسة الاستراحة،
وغير ذلك.
فعلم بهذا أنه لا يستفاد تمييز الأركان ، من الواجبات ، والمستحبات ، في الحج أو
في الصلاة ، من هذين الحديثين.
فلو قال قائل: إن الطهارة شرط في الطواف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف متوضئا
وقال خذوا مناسككم، لكان هذا استدلالا ضعيفا، ولقيل له: فلتقل بوجوب الرمل
والاضطباع في الطواف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمل واضطبع وقال : خذوا
مناسككم.
فيتعين الوقوف على أدلة أخرى خاصة ، يعلم منها الركن من الواجب من المستحب.
وقد ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الطهارة ليست شرطا في الطواف، لأنه لم يقم عنده
دليل على اشتراطها، وهذا مروي عن أحمد رحمه الله، وإليه ذهب ابن تيمية، وهؤلاء لا
ينازِعُون في أن من طاف متطهرا ، أنه أصاب السنة، وأن فعله أفضل ممن طاف على غير
طهارة ، لكن البحث فيمن طاف على غير طهارة ، هل يبطل طوافه لأن الطهارة شرط ، أو
يصح طوافه وعليه دم لأن الطهارة واجبة ، أو لا شيء عليه لأن الطهارة مستحبة فقط .
قال السبكي رحمه الله في قواعده ، في شأن ركعتي الطواف: " فأما قوله صلى الله
عليه وسلم : "خذوا عني مناسككم"، فلا دلالة له على وجوب شيء خاص منها؛ لأن المناسك
عامة في الواجب والمندوب، وإذا احتُجَّ به في وجوب فعل شيء خاصّ ، لزم طرده في
الجميع، كالرَّمل، والاضطباع، وسائر المسنونات" .
انتهى نقلا عن "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" للدكتور عمر سليمان الأشقر
(1/296).
وقال ابن القيم رحمه الله : "وقد اختلف السلف والخلف في اشتراط الطهارة للطواف
على قولين : أحدهما: أنها شرط ، كقول الشافعي ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني: ليست بشرط ، نص عليه في رواية ابنه عبد الله وغيره ، بل نصه في رواية عبد
الله يدل على أنها ليست بواجبة ، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: وهذا قول أكثر السلف. قال: وهو الصحيح فإنه لم ينقل
أحد عن النبي أنه أمر المسلمين بالطهارة ، لا في عُمَرهِ ولا في حجته ، مع كثرة من
حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجبا ولا يبينه للأمة ، وتأخير البيان عن وقته
ممتنع .
فإن قيل: فقد طاف النبي متوضأ وقال: (خذوا عني مناسككم).
قيل: الفعل لا يدل على الوجوب . والأخذ عنه هو أن يفعل كما فعل ، على الوجه الذي
فعل، فإذا كان قد فعل فعلا على وجه الاستحباب ، فأوجبناه ؛ لم نكن قد أخذنا عنه ،
ولا تأسينا به، مع أنه فعل في حجته أشياء كثيرة جدا لم يوجبها أحد من الفقهاء"
انتهى من حاشيته على "تهذيب السنن"
وللدكتور عمر الأشقر رحمه الله بحث مهم حول الاستدلال بهذين الحديثين على وجوب
أفعال معينة في الصلاة والحج ، بحجة أن ذلك من بيان المجمل ، وقد ذهب إلى أن حديث
(صلوا كما رأيتموني أصلي) كان توجيها وإرشادا لمالك بن الحويرث ومن معه، وليس فيه
تعرض لبيان ما يجب وما يستحب.
ثم قال: "وأما الحديث الثاني: هو "خذوا عني مناسككم" فهو خطاب عام للأمة ، ولا يمكن
فيه دعوى الخصوص، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قاله لجمهور الحجّاج، وهو على بعيره
يرمي جمرة العقبة. وفي رواية: "قاله قبل يوم التروية وخروجهم للحج. فلا يرد هنا ما
قلناه في الحديث الأول من امتناع دلالته على البيان العام".
وأما الوجه الآخر الذي قلناه في الحديث السابق فيأتي هنا، فإن النبي - صلى الله
عليه وسلم - فعل في حجته أفعال الحج كلّها من واجب، ومندوب. ولا يتميّز بالفعل
واجبه من مندوبه، فلا يصلح الفعل بياناً في ذلك، ما لم يقترن بكل فعل جزئي ، قرينة
تدل على أنه بيان.
ويضاف هنا وجه ثالث، وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" لا يتعيّن أن يكون المراد به ملاحظة أفعاله بخصوصها، بل يصدق على الأخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله ، بسؤاله عما يُشكل عليهم، والاستماع إلى ما يأمر به ، ويرشد إليه.
فأقصى ما يدل عليه الحديث، أن يدل على مشروعية أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في
الحج، أما التفريق بين واجبها ومندوبها ، فلا بدّ من المصير إلى وجه آخر في الدلالة
على ذلك.
وحكم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية حكم سائر الأفعال المجرّدة.
تعليق