الحمد لله.
ذكر الله تعالى عقوبة قطاع الطريق (المحاربين) في قوله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 33، 34] .
وقد اختلف الفقهاء في الصلب في هذا الحد، هل يكون قبل القتل أم بعده ؟
القول الأول: مذهب الحنفية والمالكية، أنه يصلب حيا ، ثم يقتل وهو مصلوب بحربة .
قال الكاساني الحنفي رحمه الله:
"روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يُصلب حيا، ثم يُطعن برمح حتى يموت، وكذا ذكر الكرخي.
وعن أبي عبيد أنه يُقتل، ثم يُصلب .
وكذا ذكر الطحاوي رحمه الله أن الصلب حيا من باب المُثلة، قد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن المُثلة.
والصحيح هو الأول:
لأن الصلب في هذا الباب شرع لزيادة في العقوبة ، تغليظا، والميت ليس من أهل العقوبة.
ولأنه لو جاز أن يقال: يُصلب بعد الموت؛ لجاز أن يقال: تُقطع يده ورجله من خلاف بعد الموت، وذلك بعيد، فكذا هذا.
والمراد من المُثلة في الحديث قطع بعض الجوارح، كذا قاله محمد رحمه الله" انتهى من "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (7/ 95) .
ونقله ابن الهمام في "فتح القدير" (5/ 426) عن أبي يوسف والكرخي أيضا ، ثم قال:
"وهو الأصح، أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع.
ولأن المقصود الزجر، وهو بما يحصل في الحياة، لا بما بعد الموت ...." انتهى. وانظر "الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار)" (4/ 115)
ويقول الدردير المالكي رحمه الله:
"(قوله: ثم يقتله مصلوبا) أي: ثم ينزل إذا خيف تغيره ...
(قوله: على الأرجح) أي خلافا لمن قال: إنه يصلب مدة بالاجتهاد، ثم ينزل ، فيقتل بعد نزوله". انتهى من "الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي" (4/ 349)
القول الثاني:
أنه يُقتَل ثم يُصلب، ولا يُصلب حيا ؛ لأنه من التعذيب غير المشروع.
وهو مذهب الشافعية والحنابلة ، وقال به بعض الحنفية والمالكية .
قال الرملي الشافعي رحمه الله:
"لا يُقدَّم الصلب على القتل ، لكونه زيادة تعذيب" انتهى من "نهاية المحتاج" (8/ 6)
وقال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله:
"ووقته [أي الصلب] بعد القتل. وبهذا قال الشافعي.
وقال الأوزاعي، ومالك، والليث، وأبو حنيفة، وأبو يوسف: يُصلب حيا، ثم يقتل مصلوبا، يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت؛ ولأنه جزاء على المحاربة، فيشرع في الحياة كسائر الأجزية؛ ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه، فلا يجوز.
ولنا : أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا، والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف، فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158]
ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع، كان قتلا بالسيف. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل). وأحسن القتل هو القتل بالسيف، وفي صلبه حيا تعذيب له، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان.
وإنما شرع الصلب ردعا لغيره، ليشتهر أمره، وهذا يحصل بصلبه بعد قتله.
قال أبو بكر: لم يوقِّتْ أحمد في الصلب، فأقول: يصلب قدر ما يقع عليه الاسم.
والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة؛ لأن المقصود يحصل به.
وقال الشافعي: يصلب ثلاثا. وهو مذهب أبي حنيفة.
وهذا توقيت بغير توقيف، فلا يجوز، مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره، ونتنه، وأذى المسلمين برائحته ونظره، ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه، فلا يجوز بغير دليل" انتهى من "المغني" (9/ 147) .
وبهذا يتضح أن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، فالآية الكريمة لم تبين وقت الصلب ومدته ، كما أن السنة النبوية لم يقع فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلب بعض قطاع الطريق ، حتى نعلم منها وقت الصلب .
ولذلك ذهب بعض العلماء أن الإمام يتخير بين الأمرين حسب ما يراه من المصلحة .
وقد ذكر السرخسي الحنفي في المبسوط (9/135، 136) : "أن ظاهر مذهب أبي حنيفة أن الإمام يتخير بين أن يصلبه حيا ، وبين أن يقتله ثم يصلبه ، لأنه ليس عليه مراعاة الترتيب في أجزاء حد واحد" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"ينبغي أن ينظر في هذا إلى المصلحة، فإذا رأى القاضي أن المصلحة أن يصلب قبل أن يقتل فعل" انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (14/ 371) .
والله أعلم.
تعليق