الحمد لله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا .
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟
قَالَ: إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ قال: وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ) رواه البخاري (2790) .
فالوحي أمر جميع المسلمين ، المجاهدين وغير المجاهدين ، بسؤال الله تعالى جنة الفردوس .
وهذه اشارة واضحة إلى أن الدخول إلى جنة الفردوس ممكن لجميع المسلمين إذا قاموا بتحقيق شروطها ، من الإيمان والعمل الصالح .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة ، وعظم الفردوس منها .
وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد ، إما بالنية الخالصة ، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس ، بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين، وقيل فيه جواز الدعاء بما لا يحصل للداعي لما ذكرته، والأول أولى والله أعلم " انتهى من "فتح الباري" (6 / 13) .
وهذا الذي تدل عليه ظواهر نصوص القرآن الكريم .
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ) الكهف /107.
قال الطبري رحمه الله تعالى :
" يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا بالله ورسله، وأقرّوا بتوحيد الله وما أنزل من كتبه، وعملوا بطاعته، كانت لهم بساتين الفردوس ...
واختلف أهل التأويل في معنى الفردوس ...
والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدثنا به أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ( الجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عامٍ، والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، ومِنْها الأنهَارُ الأربعةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوسَ ) " انتهى من "تفسير الطبري" (15 / 430 - 433) .
وقال الله تعالى :
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) المؤمنون (1 - 11) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات التي قدمنا هم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون؛ لدلالة قوله: ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) عليه. والفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن جل وعلا " انتهى . "أضواء البيان" (5 / 848) .
ولكن إذا علمنا أن أهل الإيمان والعمل الصالح يتفاضلون في درجات الجنات؛ فيلزم من هذا أن الإيمان والعمل الصالح الذي جعله الله تعالى سببا لنيل الفردوس الذي هو أعلى الجنة، هو الإيمان الذي بلغ الذروة في اليقين ، والعمل الصالح الذي بلغ الذروة في الإخلاص والصواب .
قال القرطبي رحمه الله تعالى :
" روى مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا : يا رسول الله ! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) ...
وقوله: ( والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) ولم يذكر عملاً ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، وذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الدرجات وأرفع الغرفات، وهذا محال، وقد قال الله تعالى: ( أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ) .
والصبر: بذل النفس والثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية، وهذه صفة المقربين.
وقال في آية أخرى : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) فذكر شأن الغرفة وأنها لا تنال بالأموال والأولاد، وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، ثم بين لهم جزاء الضعف وأن محلهم الغرفات، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة، وتعلق قلب مطمئناً به في كل ما نابه، وبجميع أموره وأحكامه، فإذا عمل عملاً صالحاً فلا يخلطه بضده وهو الفاسد.
فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد ، إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن ، وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا ؛ فلهذا كانت منزلته دون غيره " انتهى من " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص 963 - 966) .
فالحاصل ؛ أن طالب العلم إذا قام بالواجبات على الوجه المطلوب شرعا، واجتهد في النوافل، واتقى المحرمات، وعمّر أوقاته بطلب العلم الصحيح وتعليمه بإخلاص وصدق ، وكان بين كل ذلك يسأل الله تعالى الفردوس، فهو ممن يُرجى له أن ينال الفردوس بفضل الله تعالى .
خاصة وأن العلم الصحيح الخالص لوجه الله تعالى، يختص بأنه باب للدرجات العلى في الجنة من عدة أوجه :
الوجه الأول :
أن أهل العلم الصحيح المخلصين فيه ترفع درجاتهم بهذا العلم .
قال الله تعالى :
( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة /11.
ومن ذلك ما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) رواه أبوداود (1464) والترمذي (2914) وقال : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " . وصححه الألباني في " صحيح أبي داود "
الوجه الثاني :
العلم باب ووسيلة لتحقيق مرتبة الصديقية التي هي أعلى مراتب أهل الإيمان بعد مرتبة النبوة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) .
وذكر تعالى هؤلاء الاربع في سورة الحديد؛ فذكر تعالى الايمان به وبرسوله، ثم ندب المؤمنين الى ان تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه، ثم ذكر مراتب الخلائق شقيهم وسعيدهم؛ فقال: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .
وذكر المنافقين قبل ذلك . فاستوعبت هذه الآية اقسام العباد ، شقيهم وسعيدهم .
والمقصود أنه ذكر فيها المراتب الاربعة: الرسالة، والصديقية، والشهادة، والولاية.
فأعلى هذه المراتب: النبوة والرسالة.
ويليها: الصديقية؛ فالصديقون هم أئمة اتباع الرسل، ودرجتهم اعلا الدرجات بعد النبوة...
والصديقية: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول، علما وتصديقا وقياما به؛ فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول ، وأكمل تصديقا له : كان أتم صديقية .
فالصديقية : شجرة ؛ أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل " انتهى من "مفتاح دار السعادة" (1 / 222 – 223) .
الوجه الثالث :
طالب العلم المعلم له بإخلاص وصدق يلحقه أجر عظيم لا ينقطع بموته .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ) رواه مسلم (1631) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ...) رواه مسلم (2674) .
والله أعلم.
تعليق