الخميس 18 جمادى الآخرة 1446 - 19 ديسمبر 2024
العربية

لماذا أضل الله الفرق الضالة رغم دعائهم لأنفسهم بالهداية

258532

تاريخ النشر : 20-12-2017

المشاهدات : 5585

السؤال

عندي شيء محيرني ، ألا وهو: الفرق الضالة والمبتدعة [ بدون ذكر أسماء ]، تجد لهم كلاما جميلا في أعمال القلوب، والتوكل، واليقين بالله، والزهد في الدنيا، بل الخشوع في الصلاة ، أليس فيهم رجل قال: "اهدنا الصراط المستقيم" طوال حياته، ومات على البدعة غير الصراط المستقيم! مع أنه ورد في حديث الصلاة أن الله يقول: (ولعبدي ما سأل) فلماذا أضله الله ؟ ما أقصد أي شيء، بل أنا مسلم، وأريد أن أفهم ما أشكل علي ، وهل هناك إثم علي من طرح أسئلة مثل هذه؟

الجواب

الحمد لله.

لا إثم عليك في طرح هذا النوع من الأسئلة الاستيضاحية، فالإسلام لا يحجر السؤال، بل يدعو إلى التفهم والتفكر والتدبر، ويحث الناس على تعلم التصورات الصحيحة عن كل ما حولهم من تساؤلات ثنائية "المادة والمعنى"، كما قال ربنا جل وعلا: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101]. ويقول سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

ومن أهم ما ينبغي استحضاره في مقام التفكر في الهداية والإضلال أن الناس يتقاسمونها كما يتقاسمون أخلاقهم وأرزاقهم؛ ذلك أن الدنيا ركبت فيها أسباب عديدة للرزق، فمن الناس من يسلك سبيل التجارة، ومنهم من يتكسب بالزراعة، وآخرون يعملون في الحرف والصناعة، وكل قطاع مِن هذه أنواعٌ وسبلٌ ومسالكُ لا يحصيها إلا الله، والناس يخوضون فيها خوضا جادا ذاتيا ومتنوعا ، بحكم اختلاف بيئاتهم، ومستويات تعليمهم، وما ورثوه عن آبائهم، وما يحتاجه محيطهم، وتنوع رغباتهم وما يجدونه في أنفسهم من ميل داخلي تجاه إحدى تلك السبل، وبحسب ما يجنونه أيضا من هذه المكاسب، وما يحققونه من نجاح، أو يصيبهم من فشل، وما يملكون من مهارات ...

وهكذا في أسباب عديدة لا يمكن حصرها، كلها تفسر لك السؤال الضروري: لماذا تنوعت مكاسب الناس في أرزاقهم، ولم يجتمعوا فيها على طريق واحد.

وبنحو هذا الجواب يمكنك أن تتمثل جواب سؤالك "لماذا أضله الله"، وتدرك أن الله لم يضله جبرا، تماما كما أن الله لم يجبر أحدا على سلوك مكسب التجارة وليس الزراعة مثلا .

ذلك أن الهداية للصراط المستقيم تحكمها مجموعة من الأسباب، وليس سببا واحدا، ومن تلك الأسباب:

النشأة التعليمية، والاستعداد العقلي والذهني، والتخلص من كل أنواع الشقاق والعناد والاستكبار، وخلو القلب عن العوارض التي تعوق سبيل الهداية، والمحيط الفكري الذي غالبا ما يخلق إطارا لعمليات العقل واعتقادات القلب .

وأول ذلك البعد عن المضلين من البشر، الذين يقتدون بإبليس اللعين في الغواية والإضلال.

ومنها أيضا الرغبة والرهبة، وذلك حين تكون البدعة مكسوة بكساء المال والجاه والقرب من السلطان والنفوذ بين الناس، أو حين تكون الهداية محاطة بسياج الخوف والإيذاء والاضطهاد، فلا بد أن تتضاعف حينئذ أعداد المسارعين إلى الضلالة، وتتناقص أعداد المقبلين على الهداية.

وهكذا تتحكم منظومة أسباب في مقام الهداية أو الضلال؛ الأمر الذي يحول دون اجتماع الناس جميعا على اكتمال هذه الأسباب، ويفسر تنوع حظوظهم منها ، بحسب ما ينقسم لهم في هذه الدنيا من أسباب الهداية أو أسباب الضلال .

وفوق ذلك كله ، فلا بد من توافر النية الصادقة، والحياد الفكري، بعيدا عن كل أنواع الاستكبار والعناد والتعصب .

والحياد نفسه : "جهاد خاص" ، لا يكاد يتحقق إلا لمن جاهد نفسه في بحث المسألة بكل إنصاف واعتدال... وهذا جهاد لا يقدر عليه كل أحد، وبدونه لا بد أن يقع الإنسان في الخطأ أو الضلال.

وحاصل ذلك كله : أن الدعاء سبب حقيقي ، من أسباب الهداية ، ولكنه ليس هو السبب الوحيد المستقل بذلك ، ولا هو السبب المؤثر وحده في بلوغها . فهناك مجموعة من الأسباب المجتمعة التي توصل إلى الهداية ، كما أن هناك موانع للهداية يجب على الداعي أن يجتنبها .

ومن أعظم هذه الأسباب ، التي لا بد للعبد منها ، مع دوام الدعاء ، والافتقار إلى رب العالمين : أن يجعل متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم خالصة ، صادقة ، فوق كل شيء ، وقبل كل شيء ...

قال تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النور/54

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ [ص:93]، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) . رواه البخاري (7280) .

ثم عليه أن يسعى في ذلك ، ما أمكنه ، يسعى في أسباب الهداية العلمية ، فيتلقى علم الوحي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ما وسعه ذلك التلقي ، بحسب حاله .

وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا:

فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ.

وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا.

وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً.

فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)

رواه البخاري (رقم/79)، ومسلم (2282) الغيث: المطر. الأجادب: الأرض التي لا تنبت كلأ. القيعان: جمع القاع وهو الأرض التي لا نبات فيها.

يقول الإمام النووي رحمه الله:

"أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:

فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيى بعد أن كان ميتا، وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها. وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.

والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.

والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم" انتهى من "شرح مسلم" (15/47-48)

ومن أعظم أسباب بلوغ الهداية : أن يجاهد العبد نفسه على العمل بما بلغه علمه ، وأن يتشبث بكل ما بلغه من الهدى العلمي ، والعملي ، قدر طاقته .

قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) محمد/47 .

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69

وليحذر العبد عوائق الهداية ، وأسباب الزيغ والضلال .

ومن أعظم ذلك : أن يتفلت عن أمر الله ، ولا يعظم خبره ، ولا يستجيب لأمره .

قال الله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الأنعام/110

وقال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/63

من أسباب العوائق عن بلوغ الهداية المطلوبة ، وموانع إجابة الدعاء ببلوغها : طاعة رفقاء السوء ، ورؤوس الضلالة ، وزعماء الفتنة .

قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) [الفرقان: 17، 18] .

وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29]

(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الزخرف: 23، 24]

ولعل من أهم ما يتنبه له في الحديث عن هذا الموضوع، هو التذكير برحمة الله سبحانه لكل من لحقه العذر في عمله واختياره، فرحمة الله واسعة، ولا يرد عنها إلا من أبى واستكبر وآثر الشقاق والنفاق، وإلا فالبدعة – رغم تنبيهنا على خطورتها وضرورة مواجهتها فكريا وشرعيا – لا تستلزم هلاك صاحبها عند الله سبحانه ، إذا كان معذورا بالجهل ، أو كان له اجتهاد أو تأويل سائغ فيها ، ما دام قد بذل وسعه في بلوغ الهدى والحق ، من طريق النبوة ، ومشكاة الوحي . 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - في معرض تفصيله لقوله: الشخص المعين لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها -:

"وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه، كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية.

هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها" انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 346).

وقد سبق في موقعنا العديد من الأجوبة التي توضح شيئا من فقه الدعاء، وأسباب الإجابة أو عدم الإجابة، وذلك في الأرقام الآتية: (5113)، (103099)، (153316)

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب