الحمد لله.
أولاً:
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، ونوصيك بحسن الظن بالله عز وجل، والتوكل عليه، فإنه الشافي والرازق للذرية. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
ثانيا:
ثبت بالتجربة علاج كثير من حالات السرطان بالدعاء والرقية الشرعية، فينبغي استشارة الرقاة الشرعيين الموثوقين، مع تناول الأدوية والعلاجات النافعة، واليقين بأن النفع والاستشفاء بها بإذن الله تعالى.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ثنايا كلامه عن الأدوية والأشفية: “هَاهُنَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدَّوَاءِ: قَبُولَهُ، وَاعْتِقَادَ النَّفْعِ بِهِ، فَتَقْبَلُهُ الطَّبِيعَةُ، فَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْعِلَّةِ.
حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعَالَجَاتِ: يَنْفَعُ بِالِاعْتِقَادِ، وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَكَمَالِ التَّلَقِّي، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ يَشْتَدُّ قَبُولُهَا لَهُ، وَتَفْرَحُ النَّفْسُ بِهِ، فَتَنْتَعِشُ الْقُوَّةُ وَيَقْوَى سُلْطَانُ الطَّبِيعَةِ…
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِأَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْفِيَةِ، وَأَنْفَعِهَا لِلْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْقُلُوبَ الَّتِي لَا تَعْتَقِدُ فِيهِ الشِّفَاءَ وَالنَّفْعَ، بَلْ لَا يَزِيدُهَا إِلَّا مَرَضًا إِلَى مَرَضِهَا، وَلَيْسَ لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ دَوَاءٌ قَطُّ أَنْفَعُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شِفَاؤُهَا التَّامُّ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يُغَادِرُ فِيهَا سَقَمًا إِلَّا أَبْرَأَهُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهَا صِحَّتَهَا الْمُطْلَقَةَ، وَيَحْمِيهَا الْحَمِيَّةَ التَّامَّةَ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ وَمُضِرٍّ، وَمَعَ هَذَا فَإِعْرَاضُ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ عَنْهُ، وَعَدَمُ اعْتِقَادِهَا الْجَازِمِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَعَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الْأَدْوِيَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا بَنُو جِنْسِهَا: حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّفَاءِ بِهِ، وَغَلَبَتِ الْعَوَائِدُ، وَاشْتَدَّ الْإِعْرَاضُ وَتَمَكَّنَتِ الْعِلَلُ وَالْأَدْوَاءُ الْمُزْمِنَةُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَتَرَبَّى الْمَرْضَى وَالْأَطِبَّاءُ عَلَى عِلَاجِ بَنِي جِنْسِهِمْ، وَمَا وَضَعَهُ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ، وَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ وَيُحْسِنُونَ بِهِ ظُنُونَهُمْ؛ فَعَظُمَ الْمُصَابُ، وَاسْتَحْكَمَ الدَّاءُ، وَتَرَكَّبَتْ أَمْرَاضٌ وَعِلَلٌ أَعْيَا عَلَيْهِمْ عِلَاجُهَا، وَكُلَّمَا عَالَجُوهَا بِتِلْكَ الْعِلَاجَاتِ الْحَادِثَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا، وَقَوِيَتْ، وَلِسَانُ الْحَالِ يُنَادِي عَلَيْهِمْ:
وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ … قُرْبُ الشِّفَاءِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ
كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا … وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ” انتهى من “زاد المعاد” (4/92).
ثالثا:
لا خلاف بين الفقهاء والباحثين المعاصرين: أن حفظ المني أو البويضات لتلقيح غير الأزواج، أو تلقيح المرأة بغير مني زوجها: أمر محرم. وهو أيضاً مخالف لمقاصد الشريعة، فإن مقصد حفظ النسل يراد به حفظ انتساب النسل لأصله، ومنع كل ما يؤدي إلى اختلاطه، أو التشكيك فيه.
رابعاً:
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم تجميد المني عند وجود الحاجة لذلك، مدة من الزمن، وفق شروط وضوابط تمنع من اختلاطها أو استعمالها من قبل الغير، وذلك على قولين:
القول الأول: جواز تجميد المني والبويضات بثلاثة شروط، وهي:
1. وجود الحاجة المعتبرة شرعاً الداعية للتجميد.
2. استخدام المني أو البويضات المجمّدة في التلقيح بين الأزواج، وأثناء قيام الزوجية.
3. أن يؤمن من اختلاط النطف.
وذهب إلى هذا القول د. عبد الله بن جبرين، ود. عبد الله الركبان، ود. سعد الشثري، والشيخ سليمان الماجد.
ينظر: “الأحكام الفقهية المتعلقة بأحكام السرطان” لمساعد الحقيل، ص:90
القول الثاني: يحرم تجميد الحيوانات المنوية والبويضات.
وممن قال بذلك د. إبراهيم الخضيري، ود. سعد الشويرخ، ود. محمد عبد الجواد النتشة وغيرهم. (المرجع السابق).
ومن أدلة القول بالجواز:
1. أن الأصل في حكم هذه المسألة هو الإباحة، فلا ينتقل عنها إلا بدليل.
2. أن من مقاصد الشريعة الحفظ للنسل، وتجميد النطف في هذه الحالة يحقق هذا المقصد.
3. أن القول بجواز تجميد الحيوانات المنوية والبويضات، فرع عن القول بجواز التلقيح الصناعي أثناء قيام الزوجية، والذي أجازه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ولا فرق بين هذه الصورة، وما أجازته هذه المجامع، إلا في المدة الزمنية التي يتم فيها الاحتفاظ بالخلايا الجنسية، وهذا الفرق غير مؤثر، إذا حصل التثبت من عدم اختلاط عينات الخلايا الجنسية المجمدة.
أدلة القائلين بحرمة التجميد:
1. أن من مقاصد الشريعة حفظ النسب، وتجميد الحيوانات المنوية والبويضات يعود على هذا المقصد بالإبطال، فيجب منعه من خلال القول بتحريمه، صيانة للأنساب من الاختلاط، أو دخول الشك فيها.
2. أن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، والمفاسد المترتبة على تجميد الحيوانات المنوية والبويضات، من اختلاط هذه النطف، وتلقيح الأجنبيات بها، وحصول الشك في الأنساب، أعظم بكثير من المصالح المترتبة على تجميدها.
وقد نوقشت أدلة المانعين: بأنها تنطبق على القول بإجازة التجميد على إطلاقه دون قيود أو ضوابط، فإذا وُضعت الشروط والضوابط التي وضعها المجيزون، فحينها لا يبقى وجه للتحريم.
ومن الإجراءات الاحتياطية:
1. أن يتم حفر اسم الشخص، أو رمزه، على الأنبوبة، وعلى الحافظة المخصصة لها.
2. أن يتم تخصيص ثلاجة صغيرة لكل شخص، بحيث لا تختلط مع عينات غيره، ويكلِّف هو شخصاً لمتابعة تلك الحافظة.
3. إعطاء المريض نفسه تلك الحافظات التي تحوي حيواناته المنوية بعد التجميد، ليحفظها بنفسه في أي مكان يريده، ويُعطى طريقة الحفظ والمتابعة.
4. أن يقتصر في تخزين المني على مراكز طبية متخصصة، تكون تابعة لجهات رسمية غير ربحية، ويتولى الإشراف عليها لجان شرعية طبية.
والراجح –والله أعلم- هو القول بجواز تخزين المني، إذا توفرت شروط السلامة، وأمن من اختلاط النطف بعضها ببعض.
وسبب الترجيح هو:
1. قوة ما استدل به أصحاب هذا القول.
2. إمكانية الإجابة والمناقشة على أدلة المخالفين.
3. أن الشروط التي اشترطها أصحاب هذا القول، كفيلة بتفادي المحاذير التي من أجلها ذهب أصحاب القول الثاني إلى التحريم.
وينظر: “الأحكام الفقهية المتعلقة بعلاج السرطان وآثاره” بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في معهد القضاء- ص:85، 90، “أحكام النوازل في الإنجاب” رسالة دكتوراه د. محمد بن هائل المدحجي (2/512-516)، “تجميد الحيوانات المنوية والبويضات” د. محمد عساف، عبد الله عبد السلام، ص: 239.
والله أعلم.
تعليق