الحمد لله.
أولا:
الهدف من فتح مكة هو الهدف العام الذي تشترك فيه جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ، وهو دعوة الناس إلى الإسلام ، ومنع الفتنة ، وإزالة الحواجز التي تصدهم عن دين رب العالمين .
قال الله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة/193
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) رواه البخاري (25) ومسلم (22).
ثم كان هناك هدف خاص لفتح مكة؛ وهو نصرة النبي صلى الله عليه وسلم لحلفائه من خزاعة لما اعتدت عليهم قريش وحلفاؤها.
ففي السنة السادسة من الهجرة النبوية: عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش صلحا -صلح الحديبية- لمدة عشر سنين، وخيروا القبائل والناس ؛ من شاء أن يدخل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم دخل ، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش فله ذلك.
روى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قالا - وهما يذكران صلح الحديبية - :
( هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهن النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ... وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ ... ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (31 / 212 - 218)، وحسنه محققو المسند.
وفي السنة الثامنة من الهجرة النبوية، هاجمت بنو بكر بمعونة قريش قبيلة خزاعة حليفة المسلمين فقتلوا منهم جماعة، وبهذا نقضت قريش وحلفاؤها صلح الحديبية، فسار النبي صلى الله عليه وسلم لنصرة حلفائه من خزاعة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وكان سبب ذلك أن قريشا نقضوا العهد الذي وقع بالحديبية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغزاهم ...
قال ابن إسحاق: وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الدِّيَلي من بني بكر ، في بني الدِّيَل ، حتى بيّتَ خزاعة [ بيتهم : يعني هاجهم ليلا ] ، على ماء لهم يقال له الوَتير، فأصاب منهم رجلا يقال له مُنبه، واستيقظت لهم خزاعة ، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال .
وأمدت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية .
فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نصرت يا عمرو بن سالم ) فكان ذلك ما هاج فتح مكة .
وقد روى البزار من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة، وهو إسناد حسن موصول" انتهى من "فتح الباري" (7 / 519 - 520).
ثانيا:
باشر النبي صلى الله عليه وسلم كل أسباب القوة والنصر، امتثالا لقوله تعالى:
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) الأنفال (60).
- فأمر المسلمين بالتجهز، وأمر أهله بتجهيزه.
قال ابن هشام رحمه الله تعالى:
" وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ " انتهى. "سيرة ابن هشام" (4 / 39).
- وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إخفاء الأمر عن أهل مكة حتى يباغتهم ، وقد يسَّر الله له ما أراد ، فلم تشعر قريش بالأمر حتى نزل جيش المسلمين قريبا من مكة بمرّ الظهران.
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه "المطالب العالية" (17 / 459) من مسند إسحاق بن راهويه بسنده عَنِ ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ... فَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ ظهران، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ النَّاسِ، فِيهِمْ أَلْفٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَسَبْعُمِائَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَدْ عَمِيَتِ الْأَخْبَارُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلُهُ )، وصححه الحافظ ابن حجر.
- أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالإفطار ليتقووا به في غزوتهم، لما اقتربوا من العدو، وكانوا في شهر رمضان.
روى مسلم (1120) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ ، فَكَانَتْ رُخْصَةً ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ : إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا ، وَكَانَتْ عَزْمَةً ، فَأَفْطَرْنَا) .
جاء في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" :
"فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفِطْر لِمَنْ وَصَلَ فِي سَفَره إِلَى مَوْضِع قَرِيب مِنْ الْعَدُوّ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ الْعَدُوّ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِع الَّذِي هُوَ مَظِنَّة مُلَاقَاة الْعَدُوّ , وَلِهَذَا كَانَ الْإِفْطَار أَوْلَى وَلَمْ يَتَحَتَّم . وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِقَاء الْعَدُوّ مُتَحَقِّقًا : فَالْإِفْطَار عَزِيمَة ، لِأَنَّ الصَّائِم يَضْعُف عَنْ مُنَازَلَة الْأَقْرَان ، وَلَا سِيَّمَا عِنْد غَلَيَان مَرَاجِل الضِّرَاب وَالطِّعَان , وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِهَانَة لِجُنُودِ الْمُحِقِّينَ وَإِدْخَال الْوَهْن عَلَى عَامَّة الْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ" انتهى .
- لما اقترب من مكة بدأ يتخذ الإجراءات العسكرية التي ترعب قريشا وتقعدها عن القتال، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بمر الظهران أمر أصحابه ليلا بإيقاد النيران، وهذا ما أرعب عيون قريش.
ورد عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2 / 135):
" ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره ، وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يتحسس الأخبار وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، فلما رأوا العسكر أفزعهم " انتهى.
وكانت هذه المباغتة دافعا لأبي سفيان ليقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يرى منه قوة المسلمين وكثرة عددهم ، حتى يخبر بها أهل مكة فيوهن قوتهم وعزمهم.
عَنْ هِشَامٍ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفَتْحِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الخَيْلِ، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى المُسْلِمِينَ. فَحَبَسَهُ العَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ القَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَان َ ) رواه البخاري (4280).
- وقد تحقق المقصود من ذلك ، فقد نقل ابن حجر رحمه الله تعالى في " المطالب العالية" (17/ 461 – 462) من "مسند إسحاق بن راهويه" بسنده عَنِ ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما : ( فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ حَيْثُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى راياتها، فكلما مرت راية، قَالَ: مَنْ هذه؟ فأقول: بني سُلَيْمٍ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِبَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ أُخْرَى، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضْرَاءُ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إلا الحدق، قال: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ لَعَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فنعم إذاً، فقلت:النَّجَاءُ إِلَى قَوْمِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُمْ بِمَكَّةَ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَذَا مُحَمَّدٌ، قَدْ أَتَاكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِه ... ثم قال : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا يغني عَنَّا دَارُكَ، قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ) .
قال الحافظ ابن حجر:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
ثالثا:
لما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وعلى بعد (22 كيلا) في مرّ الظهران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه هناك، ونظمه استعدادا لدخول مكة.
فوزع الجيش على كتائب، كل كتيبة تمثل قبيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار في كتيبة، كما مرّ في الحديثين السابقين.
ثم قسّم هذا الجيش لما قدم مكة؛ على الميمنة خالد بن الوليد، وعلي الميسرة الزبير بن العوام، والرجّالة والحسّر الذين لا دروع لهم بقيادة أبي عبيدة، والنبي صلى الله عليه وسلم في كتيبة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ ) رواه مسلم (1780) .
وفي رواية أخرى لمسلم: ( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ، وَبَطْنِ الْوَادِي ).
الْبَيَاذِقَةِ: هم الرجالة.
وأمر خالدا أن يدخل من أسفل مكة – المسفلة- ويغرز رايته عند أدنى البيوت، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم والزبير بمن معه من أعلى مكة وغرز رايته بالحجون.
عَنْ هِشَامٍ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالحَجُونِ.
قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ: حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ ) رواه البخاري (4280).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله ( وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ ) بالمدّ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، أي بالقصر، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق: أن خالدا دخل من أسفل ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم ، وأمره أن يدخل من أسفل مكة ، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار ، في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم " انتهى. "فتح الباري" (8/ 10).
رابعا:
وفتح مكة رغم أنه يعد أعظم الفتوح، ويعد حدثا فاصلا في تاريخ الإسلام والبشرية ، إلا أن قتلى هذا الفتح لم يتجاوز عشرات قليلة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وذكر ابن إسحاق أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش، منهم سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية كانوا تجمعوا بالخندمة -مكان أسفل مكة- ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر وانهزموا ...
وعند موسى بن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة ، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة وناس من هذيل ، ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا، فقاتلهم ، فانهزموا ، وقتل من بني بكر نحو عشرين رجلا ، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة ، حتى انتهى بهم القتل إلى الجزورة ، إلى باب المسجد حتى دخلوا في الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ( ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة، فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال ، فلم يكن له بد من أن يقاتل، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ فقال: هم بدءونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال: قضاء الله خير ) .
وذكر ابن سعد: أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا، ومن هذيل خاصة أربعة، وقيل: مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلا " انتهى من "فتح الباري" (8 / 10 - 11).
وقلة القتلى مقارنة بعظمة هذا الفتح راجع إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الإجراءات الحربية التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم من استعداد وسرية في القدوم إلى مكة وكل ما سبق ذكره، كان لها بقدر الله تعالى أثرٌ عظيمٌ في دخول الرعب في قلوب أهل مكة وتوهين عزيمتهم للقتال، فلم يقم إلى القتال إلا القليل منهم ، كما أن هذه المباغتة لم تعطهم الفرصة للاستعداد للحرب.
الأمر الثاني: عظمة وحرمة المكان الذي وقع فيه القتال وهو الحرم المكي، فكان هذا حافزا إلى كف المسلمين لسيوفهم ما أمكنهم ذلك.
ولهذا لما قال سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: ( يَا أَبَا سُفْيَانَ! اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، ...
فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: مَا قَالَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ ) رواه البخاري (4280).
ولم يأذن فيه بعد التغلب عليها ، إلا لخزاعة ، تأخذ ثأرها من بني بكر، ولم يأذن لها إلا ساعة من نهار إلى العصر من يوم الفتح، ثم أمرهم بكف أيديهم عن القتل.
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: ( لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ. فَأَذِنَ لَهُمْ، حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ.
فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ، مِنْ غَدٍ، بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ، وَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ: إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ [أي : ثار] الْجَاهِلِيَّةِ ) رواه أحمد في "المسند" (11 / 264 - 265)، وحسنه محققو المسند.
الأمر الثالث: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس والجنوح إلى السلم ما أمكن ذلك.
فقد أعطى الأمان لكل من يدخل بيته ، أو بيت أبي سفيان ، أو المسجد ، أو ألقى السلاح.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ ) رواه مسلم (1780).
وعند أبي داود (3022) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ .
قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ )، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2 / 257).
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم جنوده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، كما مر ذلك في كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
والله أعلم.
تعليق